Web Hits مقالات مركز الإسلام | موقع مختص بالتعرف بالإسلام وتعليم مبادئ الدين الحنيف ( عقيدة - صلاة - زكاة - صوم - حج - عمرة - السيرة النبوية ) على ما جاء في القرآن والسنه http://islam-centers.net/ar/islamic-definition/article-islamic-definition.html Mon, 28 Dec 2020 11:15:29 +0000 Joomla! 1.5 - Open Source Content Management ar-dz فضائل الصيام وفوائده وحِكَمِهِ وأحكامه وآدابها http://islam-centers.net/ar/islamic-definition/article-islamic-definition/59-2010-06-15-14-12-04/503-2013-01-16-09-58-17.html http://islam-centers.net/ar/islamic-definition/article-islamic-definition/59-2010-06-15-14-12-04/503-2013-01-16-09-58-17.html

فضائل الصيام وفوائده وحِكَمِهِ وأحكامه وآدابها

   إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأمينه على وحيه، وخليله، وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله، وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً أما بعد:

   فإن أحسن الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد –صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة،وكلّ ضلالة في النار.

   عباد الله: اتقوا الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَ‌بَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِ‌جَالًا كَثِيرً‌ا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّـهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْ‌حَامَ ۚ إِنَّ اللَّـهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَ‌قِيبًا }([1]).

   واشكروا الله على ما مَنَّ به عليكم من أن بلَّغكم رمضان المبارك؛ فإن إدراكه من أعظم النعم (وما بكم من نعمة فمن الله) { وَكَذَٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولُوا أَهَـٰؤُلَاءِ مَنَّ اللَّـهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا ۗ أَلَيْسَ اللَّـهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِ‌ينَ }([2]). { وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّـهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ اللَّـهَ لَغَفُورٌ‌ رَّ‌حِيمٌ}([3]).

   عباد الله: اجتهدوا في شهركم هذا؛ فإنكم لا تدرون لعله لا يدرككم مرة أخرى، فإن الآجال، والأعمار بيد الله تعالى: {إنَّ اللَّـهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْ‌حَامِ ۖ وَمَا تَدْرِ‌ي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا ۖ وَمَا تَدْرِ‌ي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْ‌ضٍ تَمُوتُ ۚ إِنَّ اللَّـهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ‌}([4]).

   أيها المسلمون: اعلموا رحمكم الله وجعلكم مباركين أينما كنتم أنَّ فضائل الصيام وفوائده كثيرة لا تحصى، ومنها:

*  الصيام سبب من أسباب التقوى، كما قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}([5]).

* و(الصوم جُنَّة يَستجن بها العبد من النار)([6]). ومعنى جُنَّة من النار: أي وقاية من النار.

* والصوم يُباعد الله النار عن وجه صاحبه: (من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً)([7]). فإذا كان صوم يوم واحد بهذه الأفضلية والمنزلة فما بالك بصيام شهر كامل أو صيام ثلاثة أيام من كل شهر نافلة أو غير ذلك من الصيام المشروع.

* والصوم وقاية من الشَّهوات: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)([8]).

* والصوم لا مثل له ولا عدل فقد أوصى به النبي –صلى الله عليه وسلم-، فعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله مرني بأمر ينفعني الله به، قال: (عليك بالصوم؛ فإنه لا مثل له) وفي لفظ: (فإنه لا عِدلَ له)([9]).

* والصوم يُدخل الجنة من باب الريان؛ لحديث سهل بن سعد رضي الله عنه يرفعه إلى النبي –صلى الله عليه وسلم-: (إن في الجنة باباً يقال له الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، يُقال: أين الصائمون؟ فيقومون لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أُغلق فلم يدخل منه أحد)([10]).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: (من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة: يا عبدالله هذا خيرٌ، فمن كان من أهل الصلاة دُعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دُعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دُعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة). قال أبو بكر رضي الله عنه: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما على من دٌعي من تلك الأبواب من ضرورة فهل يُدعى أحدٌ من تلك الأبواب كلها؟ قال: (نعم وأرجو أن تكون منهم)([11]).

* والصيام كفَّارة للذنوب، فعن حذيفة رضي الله عنه يرفعه إلى النبي –صلى الله عليه وسلم-: (فتنة الرجل في أهله، وماله، وجاره تٌكِّفرها: الصلاة، والصيام والصدقة)([12]).

* والصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، فعن عبدالله بن عمرو يرفعه: (الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي ربِّ منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفِّعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه (قال: (فيشفعان)([13]).

* ويُوفَّى الصائمون أجرهم بغير حساب.

* والصوم سبب للسعادة في الدنيا والآخرة؛ فإن الصائم له فرحتان.

* وخَلوف فَمِ الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وقد دلَّ على هذه المسائل الثلاث حديث أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه: (كل عمل ابن آدم يضاعف له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله عز وجل: إلا الصوم؛ فإنه لي وأنا أجزي به, يدع شهوته، وطعامه [وشرابه] من أجلي، للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك)([14]).

* والصائم دعوته لا تُرد؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: (ثلاثة لا تردُّ دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم)([15]).

*  وتفطير الصائمين فيه الأجر العظيم؛ لحديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: (مَن فطَّر صائماً كان له مثلُ أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئاً)([16]).

وغير ذلك من فضائل الصيام التي لا تعد ولا تُحصى.

أما خصائص شهر رمضان المبارك فهو الشهر الذي أنزل الله فيه القرآن، وتُفتَّح فيه أبواب الجنة، وأبواب السماء، وأبواب الرحمة، وتُغلق فيه أبواب النار، وتُصفَّد فيه الشياطين ومَرَدة الجن، وينادى فيه يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار في كل ليلة، وفيه ليلة خير من ألف شهر، من حُرم خيرها فقد حُرم الخير كله، وهو من المحرومين، وتجاب فيه الدعوات، وهو شهر الذكر والدعاء، وشهر الصبر، وتُغفر فيه جميع الذنوب،وتُرفع به الدرجات في الجنة، وتُكفَّر به السيئات، ومن قامه إيماناً واحتساباً غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه، وهو الشهر الذي يُدارِس فيه جبريل النبي –صلى الله عليه وسلم- القرآن، وهو الشهر الذي يكون فيه النبي –صلى الله عليه وسلم- أجود بالخير من الريح المرسلة، فاجتهد يا عبدالله لهذا الخير العظيم، فلعله لا يكون لك شهر غيره بانتقالك إلى الدار الآخرة. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}([17]). بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المؤمنين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله، وأصحابه، وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فيا عباد الله إن الصوم له فضائل عظيمة وفوائد كثيرة لا تُحصر في مثل هذا المقام، ومن فوائده وثمراته: أن يتبيَّن من كان عابداً لمولاه ومن كان مُتَّبِعاً لهواه، والصيام عبادة لله عز وجل يتقرّب بها العبدُ إلى الله فيظهر بذلك صدق إيمانه وتقواه؛ ولذلك كان كثيرٌ من المؤمنين لو ضُرب أو حُبس على أن يُفطِر يوماً من رمضان بدون عذر شرعي لم يفطر، وهذه الحكمة من أبلغ حِكَمِ الصيام، والصيام سبب للتقوى؛ فإن الصائم مأمور بفعل الطاعات، واجتناب المعاصي كما قال –صلى الله عليه وسلم-: (من لم يدع قول الزور والعمل به، والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)([18])، ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي –صلى الله عليه وسلم-: (...وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث [أي لا يعمل الفحش من الكلام وغيره] ولا يصخب). وفي لفظ: (ولا يجهل [أي لا يفعل شيئاً من أفعال أهل الجهل: كالصياح والسَّفه] فإن سابَّه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم، إني امرؤ صائم...) ([19]).

والصوم يجعل  القلب يتخلَّى للذِّكر والفكر؛ لأن تناول الشهوات يوجب الغفلة، ورُبَّما يُقسِّي القلب ويُعمي عن الحق، والصوم به يعرِفُ الغنيُّ قَدْرَ نِعَمِ الله عليه وقد حُرِمَها كثيرٌ من الخلق، والصوم سبب في التمرُّن على ضبط النفس والسيطرة عليها، والصوم يَكْسِرُ النفس ويحدُّ من كبريائها، ويُضيِّق مجاري الدم بسبب الجوع والعطش فتضيق مجاري الشيطان؛ لأنه يجري من ابن آدم مجرى الدم، ومن ذلك ما يترتب على الصيام من الفوائد الصِّحيَّة التي تحصل بسبب تقليل الطعام وإراحة جهاز الهضم.

والصوم ركن من أركان الإسلام لا يتم إسلام العبد إلا به، وله أركان، وشروط، ومفسدات، وآداب لا بد للمسلم العمل بها:

فأركانه: الإمساك عن جميع المفطِّرات من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس، والنية من الليل: (من لم يُبيِّت الصيام قبل الفجر فلا صيام له)([20]). والنية محلها القلب والتلفظ بها بدعة.

وأما شروط وجوب الصيام فستة: يجب الصيام على كل مسلم، عاقل، بالغ، قادر، مقيم، سالم من الموانع: وهي الحيض والنفاس للنساء، ولكن ينبغي أن يُؤمر الصبيان بالصيام ويُشَجَّعوا عليه؛ لفعل الصحابة رضي الله عنهم؛ حتى يعتاد الصبي ذلك ويتدرب عليه.

أما مفسدات الصوم التي يفطر بفعلها الصائم فسبعة: الجماع في نهار رمضان، وإخراج المني باختياره، والأكل والشرب متعمداً، وما يقوم مقام الأكل والشرب كالإبر المغذية، وإخراج الدم بالحجامة، والتقيؤ عمداً بإخراج ما في المعدة عن طريق الفم، وخروج دم الحيض والنفاس، وقد جاء العقاب الأليم لمن أفطر يوماً متعمداً بغير عذر، ففي حديث أبي أمامة رضي الله عنه يرفعه: (...قلت: ما هذه الأصوات؟ قالوا: عُواء أهل النار، ثم انطلق بي فإذا أنا بقوم معلقين بعارقيبهم، مشققة أشداقهم، تسيل أشداقهم دماً، قال: قلت: ما هؤلاء؟ قال: الذين يفطرون قبل تحلة صومهم)([21]).

ويباح الفطر في رمضان لخمسة: المريض، والمسافر، والعاجز عن الصيام: كالشيخ الهرم أو العجوز الهرمة، ومن احتاج إلى إنقاذ معصوم إذا لم يُمكن إنقاذه إلا بالإفطار، والحامل والمرضع إذا خافتا على نفسيهما أو ولديهما الضرر، وكل هؤلاء يقضون الصيام إلا العاجز بمرض لا يرجى برؤه أو الهرم فيطعمان عن كل يوم مسكيناً ولا قضاء عليهما؛ لعجزهما، والصيام له آداب مستحبة، منها: أكلة السحور والأفضل تأخيره إلى قبيل طلوع الفجر، وتعجيل الإفطار بعد غروب الشمس، والإفطار على رُطبات، أو تمرات، أو حسواتٍ من ماء، ومن الآداب: كثرة القراءة، والدعاء والذكر، وأنواع البر، وأعظم الذكر قراءة القرآن بالتدبر، والإكثار من تلاوته، فإن من أحب الله أكثر من تلاوة كتابه، ومن طهر قلبه لم يشبع من قراءة كلام الله تعالى، ومن أحب القرآن فهو يحبه سبحانه. واستحضار الصائم نعمة الله عليه, وأن الله وفَّقه لهذا الصيام وقد حُرِمَهُ كثيرٌ من الناس. وهناك أخطاء يقع فيها كثير من الناس في رمضان، منها: عدم الفقه لأحكام الصيام، والكثير من الناس يسهرون الليل على غير طاعة الله تعالى، وترك صلاة التراويح والتكاسل عنها، أو الانصراف قبل إكمالها مع الإمام؛ فإن من لازم الإمام حتى ينصرف كُتِبَ له قيام ليلة، وقد شرع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- صلاة التراويح بقوله، وفعله، وهي تُصلَّى إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة، وهذا هو الأفضل، فإن صلى أكثر من ذلك فلا حرج؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى)([22]). فلو صلى عشرين ركعة وأوتر بثلاث فلا حرج، أو صلى ستّاً وثلاثين وأوتر بثلاث فلا حرج، أو صلى إحدى وأربعين فلا بأس، ولكن الأفضل ثلاث عشرة ركعة أو إحدى عشرة ركعة([23]). ومن الأخطاء الإسراف والتبذير في الطعام والشراب واللباس، قال الله تعالى: { يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَ‌بُوا وَلَا تُسْرِ‌فُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِ‌فِينَ}([24]). وقال سبحانه: {وَآتِ ذَا الْقُرْ‌بَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ‌ تَبْذِيرً‌ا ﴿٢٦إِنَّ الْمُبَذِّرِ‌ينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَ‌بِّهِ كَفُورً‌ا} ([25]).

عباد الله: اتَّقوا الله واجْتهدوا, وأحسنوا النية، فكم من أُناسٍ صاموا معكم رمضان الماضي وهم الآن من أصحاب القبور، وكم من أناس لا يكملون رمضان يهجم عليهم الأجل قبل إتمامه.

هذا وصلوا على خير الخلق نبينا محمد بن عبدالله –صلى الله عليه وسلم-، ورضي الله عن أصحابه: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وانصر عبادك المخلصين، اللهم آمنا في دورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وهيئ لهم البطانة الصالحة برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم تقبَّل صيامنا وقيامنا، واغفر لنا ذنوبنا يا غفور يا رحيم، اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، واغفر لأمواتنا وأموات المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم إنا نسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة.

عباد الله:  {إِنَّ اللَّـهَ يَأْمُرُ‌ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْ‌بَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ‌ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُ‌ونَ}([26]) . فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون



([1])  سورة النساء، الآية: 1.

([2])  سورة الأنعام، الآية: 53.

([3])  سورة النحل، الآية: 18.

([4])  سورة لقمان، الآية: 34.

([5])  سورة البقرة, الآية: 183.

([6])  أحمد (3/241 و296، 4/22)، وانظر: صحيح الجامع 3876.

([7])  البخاري (2840)، ومسلم (1153).

([8])  البخاري، (5065، 5066), ومسلم برقم (1400).

([9])  النسائي برقم (2222 – 2225) وصححه الألباني في صحيح النسائي (2/476).

([10])  البخاري برقم (1896)، ومسلم برقم 1152.

([11])  البخاري برقم (1897).

([12])  البخاري برقم 144) وغيره.

([13])  أحمد (2/174)، والحاكم (1/554).

([14])  البخاري بنحوه برقم (1894)، ومسلم بلفظه برقم (1151).

([15])  ابن ماجه برقم (1752)، والترمذي برقم (3598)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (2/86)، وأما حديث =إن للصائم عند فطره لدعوة ما ترد+ فرواه ابن ماجه برقم (1753) وضعفه الألباني في الإرواء برقم (921) فيراجع الحديث.

([16])  الترمذي برقم (807)، وابن ماجه برقم (1746) وصححه الألباني في صحيح الترمذي (1/424).

([17])  سورة البقرة, الآية: 183.

([18])  البخاري برقم (6057)، وأبو داود بلفظ برقم (2362).

([19])  البخاري برقم (1894 و1904).

([20])  أحمد (6/287)، وأبو داود برقم (2454) وغيرهما من الخمسة وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/82).

([21])  ابن خزيمة والحاكم (1/430)، و(2/209)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/588).

([22])  البخاري برقم (990)، ومسلم برقم (749).

([23])  المغني لابن قدامة (2/604)، وفتاوى ابن تيمية (23/112)، وسبل السلام للصنعاني (3/20).

([24])  سورة الأعراف، الآية: 31.

([25])  سورة الإسراء، الآيتان: 26، 27.

([26])  سورة النحل، الآية: 90.

]]>
es.islamcenter@gmail.com (mona) الصوم Wed, 16 Jan 2013 09:57:43 +0000
فضل العشر الأواخر من رمضان وخصائصها http://islam-centers.net/ar/islamic-definition/article-islamic-definition/59-2010-06-15-14-12-04/502-2013-01-16-08-38-26.html http://islam-centers.net/ar/islamic-definition/article-islamic-definition/59-2010-06-15-14-12-04/502-2013-01-16-08-38-26.html

فضل العشر الأواخر من رمضان وخصائصها

الخطبة الأولى:

   إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله، وأصحابه, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

   فيا عبادَ الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ }([1]). معاشر المؤمنين: اشكروا الله على نعمه التي لا تعدُّ ولا تحصى، ومن هذه النعم العظيمة أن بلَّغكم رمضان وقد حُرِمَ هذه النعمة كثير من الناس، {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ۚ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّـهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}([2]). {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّـهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ اللَّـهَ لَغَفُورٌ‌ رَّ‌حِيمٌ}([3]). {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّـهِ ۖ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ‌ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُ‌ونَ}([4]). وإن شكرتموه بأفعالكم وأقوالكم وقلوكم زادكم من فضله, وإحسانه, وتوفيقه, وامتنانه، قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَ‌بُّكُمْ لَئِن شَكَرْ‌تُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْ‌تُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}([5]).

   عباد الله: كُنَّا بالأمس القريب نستقبل رمضان بالبهجة والسرور، وقد أسرعت الأيام حتى ذهب أكثره وقد أحسن أنَاسٌ في الأيام الماضية فصاموا النهار وقاموا الليل، وقرأوا القرآن، وتصدقوا وأحسنوا، وتركوا المعاصي والسيئات، فلهم الأجر العظيم، والثواب الكبير، وعليهم المزيد في الباقي من أيام رمضان المبارك، وقد أساء آخرون فأخلُّوا بالصيام, وتركوا القيام, وسهروا الليالي الطوال على قيل وقال, وإضاعة المال، ومنعٍ وهات، وهجروا القرآن، وبخلوا بأموالهم، لكن الله تعالى ذو الفضل العظيم والإحسان العميم, يقبل التوبة ويعفو عن السيئات لمن تاب وأناب، وقد جعل سبحانه العشر الأواخر من رمضان فرصة لمن أحسن في أول الشهر أن يزاد، ولمن أساء أن يستدرك ما فاته؛ ويغتنم هذه الأيام العشر في الطاعات وما يقربه من الله تعالى، والعشر الأواخر لها خصائص وفضائل منها:

* نزول القرآن في العشر الأواخر من رمضان، في ليلة القدر، قال الله تعالى: { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ‌}([6]). وقال عز وجل: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَ‌كَةٍ ۚ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِ‌ينَ}([7]). وهذا من أعظم فضائل العشر: أن الله أنزل هذا النور المبين فأخرج به من الظلمات إلى النور، ومن الجهل إلى نور العلم والإيمان، وهذا القرآن العظيم شفاءٌ وهدىً ورحمةٌ للمؤمنين، وموعظة وشفاء لما في الصدور، {قُلْ بِفَضْلِ اللَّـهِ وَبِرَ‌حْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَ‌حُوا هُوَ خَيْرٌ‌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}([8]).

* ومن خصائص هذه العشر الأواخر ليلة القدر والعبادة في هذه الليلة خير من العبادة في ألف شهر، فالعبادة فيها خير وأفضل من العبادة في ثلاث وثمانين سنة وما يقرب من أربعة أشهر، وهذا فضل عظيم لمن وفقه الله تعالى. قال عز وجل: { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ‌ ﴿١وَمَا أَدْرَ‌اكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ‌ ﴿٢لَيْلَةُ الْقَدْرِ‌ خَيْرٌ‌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ‌ ﴿٣تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّ‌وحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَ‌بِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ‌ ﴿٤سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ‌} ([9]).

وليلة القدر لها فضائل كثيرة، منها:

* الفضيلة الأولى: أن الله أنزل القرآن فيها الذي به هداية العباد وسعادتهم في الدنيا والآخرة { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ‌} وقال عز وجل: {إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ }

* الفضيلة الثانية: في هذه الليلة يفرق كل أمر حكيم، أي يُفصل من اللوح المحفوظ ما هو كائن في السنة: من الأرزاق، والآجال، والخير والشر.

* الفضيلة الثالثة: ما يدل عليه الاستفهام من التفخيم والتعظيم لهذه الليلة في قوله سبحانه: {َمَا أَدْرَ‌اكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ‌}

* الفضيلة الرابعة: أن هذه الليلة مباركة {إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ } .

* الفضيلة الخامسة: أن هذه الليلة خير من ألف شهر.

* الفضيلة السادسة: تتنزل الملائكة فيها، والروح وهو جبريل؛ لكثرة بركتها، وهم لا ينزلون إلا بالخير والبركة.

* الفضيلة السابعة: أن هذه الليلة سلام حتى مطلع الفجر؛ لكثرة السلامة فيها من العقاب، والعذاب، بما يقوم به العبد من طاعة الله عز وجل.

* الفضيلة الثامنة: أن من قامها إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه([10]).

* الفضيلة التاسعة: أن من أدركها واجتهد فيها ابتغاء مرضاة الله فقد أدرك الخير كله، ومن حرمها فقد حُرِم الخير كله، كما قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: (أتاكم رمضان شهر مبارك، فرض الله عز وجل عليكم صيامه، تُفتحُ فيه أبواب الجنة، وتُغلقُ فيه أبواب الجحيم، وتُغلُّ فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حُرِم)([11]).

وعن أنس رضي الله عنه قال: دخل رمضان فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: (إن هذا الشهر قد حضركم، وفيه ليلةٌ خيرٌ من ألف شهر، من حُرِمَها فقد حُرِمَ الخير كله، ولا يحرَمُ خيرَها إلا محرومٌ)([12]).

* الفضيلة العاشرة: أن الله أنزل في فضلها سورة كاملة تُتلى إلى يوم القيامة: { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ‌ }

* ومن خصائص هذه العشر اجتهاد النبي –صلى الله عليه وسلم- في قيامها, والأعمال الصالحة فيها اجتهاداً عظيماً، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي –صلى الله عليه وسلم- إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله، وجدَّ وشدَّ المئزر)([13]). ومعنى شد المئزر: أي شمر واجتهد في العبادات، وقيل: كناية عن اعتزال النساء. وعنها رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره)([14]).

وهذا الإحياء شامل لجميع أنواع العبادات: من صلاة، وقرآنٍ، وذكرٍ، ودعاء، وصدقة، وغيرها، ومما يدل على فضل العشر: إيقاظ الأهل للصلاة والذكر، ومن الحرمان العظيم أن ترى كثيراً من الناس يُضيِّعون الأوقات في الأسواق، وغيرها، ويسهرون فإذا جاء وقت القيام ناموا، وهذه خسارة عظيمة، فعلى المسلم الصادق أن يجتهد في هذه العشر المباركة, فلعله لا يدركها مرة أخرى باختطاف هاذم اللذات، ولعله يجتهد فتصيبه نفحة من نفحات الله تعالى فيكون سعيداً في الدنيا والآخرة.

* ومن خصائص هذه العشر الاعتكاف فيها، وهو لزوم المسجد لطاعة الله تعالى، وهو ثابت بالكتاب والسنة، قال الله تعالى: { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّ‌فَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ ۚ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ۗ عَلِمَ اللَّـهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ ۖ فَالْآنَ بَاشِرُ‌وهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّـهُ لَكُمْ ۚ وَكُلُوا وَاشْرَ‌بُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ‌ ۖ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ۚ وَلَا تُبَاشِرُ‌وهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ۗ تِلْكَ حُدُودُ اللَّـهِ فَلَا تَقْرَ‌بُوهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّـهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}([15]). وعن عائشة رضي الله عنها، أن النبي –صلى الله عليه وسلم- كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده([16]). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يعتكف في كل رمضان عشرة أيام فلما كان العام الذي قُبض فيه اعتكف عشرين يوماً)([17]). وفي لفظ: (كان يعرضُ على النبي –صلى الله عليه وسلم- القرآن كل عام مرة، فعرض عليه مرتين في العام الذي قُبض فيه، وكان يعتكف في كل عام عشراً فاعتكف عشرين في العام الذي قُبض فيه)([18]). وذكر ابن حجر رحمه الله أن المراد بالعشرين: العشر الأوسط والعشر الأخير([19])، ويدل على معناه حديث أبي سعيد رضي الله عنه في صحيح مسلم([20])

وكان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يعتكف في العشر الأوسط من رمضان، فاعتكف عاماً حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين قال: (من كان اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر فقد رأيت هذه الليلة ثم أنسيتها... فالتمسوها في العشر الأواخر والتمسوها في كل وتر)([21]). وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه: أن النبي –صلى الله عليه وسلم- اعتكف العشر الأول من رمضان، ثم اعتكف العشر الأوسط، ثم قال –صلى الله عليه وسلم-: (إني أعتكف العشر الأول ألتمس هذه الليلة، ثم اعتكفت العشر الأوسط، ثم أتيت فقيل لي: إنها في العشر الأواخر، فمن أحب منكم أن يعتكف فليعتكف) فاعتكف الناس معه، قال: ( وإني أُريتُها ليلة وترٍ...) ([22]). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أجدُ الناس بالخير، وكان يلقاه في كل ليلةٍ في شهر رمضان حتى ينسلخ يعرضُ عليه رسول الله –صلى الله عليه وسلم- القرآن، فإذا لقيه جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة)([23]).

والمقصود بالاعتكاف انقطاع الإنسان عن الناس ليتفرغ لطاعة الله تعالى في مسجد من مساجد الله طلباً لفضل ثواب الاعتكاف من الله تعالى، وطلباً لإدراك ليلة القدر، وله الخروج من معتكفه فيما لا بد منه: كقضاء الحاجة, والأكل والشرب إذا لم يُمكن ذلك في المسجد

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ‌ ﴿١وَمَا أَدْرَ‌اكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ‌ ﴿٢لَيْلَةُ الْقَدْرِ‌ خَيْرٌ‌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ‌ ﴿٣تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّ‌وحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَ‌بِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ‌ ﴿٤سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ‌}([24]).

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله, وأصحابه, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين, أما بعد:

عباد الله: اجتهدوا في طاعة الله تعالى وخصُّوا هذه العشر المباركة بمزيد من الاجتهاد طلباً للثواب ومضاعفة الأجر في هذه الليالي، وطلباً لليلة القدر التي اختصت بها العشر الأواخر من رمضان كما قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: (إني أُريت ليلة القدر ثم أُنسيتها – أو نُسِّيتها – فالتمسوها في العشر الأواخر في الوتر)([25]). وفي حديث عائشة رضي الله عنها، عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (تحرُّوا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان)([26]). فليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان يقيناً لا شك فيه،وهي في الأوتار أقرب؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: (التمسوها في العشر الأواخر من رمضان، ليلة القدر: في تاسعة تبقى، في سابعة تبقى، في خامسة تبقى+، وفي لفظ: =هي في العشر الأواخر في تسع يمضين أو في سبع يبقين)([27]). وقد تكون في الأشفاع؛ فإنه جاء في البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: (التمسوها في أربع وعشرين)([28]) وقد كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يجتهد في هذه العشر ما لا يجتهد في غيره، وكان الصحابة رضي الله عنهم يجتهدون اجتهاداً عظيماً، قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله، أرأيت إن علمت أيّ ليلة ليلة القدر، ما أقول فيها؟ قال: (قولي: اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعفو عني)([29]). فعلى العبد الصادق أن يجتهد في جميع ليالي العشر ويحصل عليها يقيناً لا شك فيه، وقد أخفى الله ليلة القدر رحمة بعباده؛ لأمور منها: زيادة حسناتهم إذا اجتهدوا في العبادة بأنواعها في هذه الليالي، واختباراً لعباده؛ ليتبين الصادق في طلبها من غيره؛ فإن من حرص على شيء جد في طلبه. هذا وصلوا على خير خلق الله نبينا محمد بن عبدالله –صلى الله عليه وسلم-، ورضي عن أصحابه: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر أصحابه أجمعين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، اللهم وفقنا لقيام ليلة القدر إيماناً واحتساباً ياذا الجلال والإكرام، اللهم إنك عفو تحب الحب فاعفو عنا.

عباد الله: { إِنَّ اللَّـهَ يَأْمُرُ‌ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْ‌بَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ‌ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُ‌ونَ}([30]). فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ‌ ۗ وَلَذِكْرُ‌ اللَّـهِ أَكْبَرُ‌ ۗ وَاللَّـهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ}([31]).

 



([1])  سورة آل عمران، الآية: 102.

([2])  سورة إبراهيم، الآية: 34.

([3])  سورة النحل، الآية: 18.

([4])  سورة النحل، الآية: 53.

([5])  سورة إبراهيم، الآية: 7.

([6])  سورة القدر، الآية: 1.

([7])  سورة الدخان، الآية: 3.

([8])  سورة يونس، الآية: 58.

([9])  سورة القدر، الآيات: 1 – 5.

([10])  البخاري برقم (35)، ومسلم، برقم (760).

([11])  النسائي برقم (2108)، وصححه الألباني في صحيح النسائي (2/456).

([12])  ابن ماجه، برقم (1644)، وقال الألباني في صحيح ابن ماجه (2/59): (حسن صحيح).

([13])  البخاري، برقم (2024)، ومسلم (1174).

([14])  مسلم، برقم (1175).

([15])  سورة البقرة، الآية: 187.

([16])  البخاري برقم (2026)، ومسلم برقم 2044).

([17])  البخاري برقم (2044).

([18])  البخاري برقم (4998).

([19])  فتح الباري (9/46).

([20])  مسلم برقم 215 (1167)، والبخاري 2018.

([21])  البخاري برقم (2027).

([22])  مسلم برقم 215 (1167) والبخاري برقم 2018.

([23])  البخاري برقم (4997)، ومسلم برقم (2308).

([24])  سورة القدر، الآيات: 1 – 5.

([25])  البخاري، برقم (2016).

([26])  البخاري برقم (2020).

([27])  البخاري برقم 2021 ورقم 2022.

([28])  البخاري برقم (2022).

([29])  الترمذي برقم (3513) وغيره من الخمسة، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (3/446).

([30])  سورة النحل، الآية: 90.

([31])  سورة العنكبوت، الآية: 45.

]]>
es.islamcenter@gmail.com (mona) الصوم Wed, 16 Jan 2013 08:05:49 +0000
فضل صيام يوم عرفة وأحكام الأضاحي وآداب العيد http://islam-centers.net/ar/islamic-definition/article-islamic-definition/59-2010-06-15-14-12-04/501-2013-01-15-16-17-56.html http://islam-centers.net/ar/islamic-definition/article-islamic-definition/59-2010-06-15-14-12-04/501-2013-01-15-16-17-56.html

فضل صيام يوم عرفة وأحكام الأضاحي وآداب العيد

الخطبة الأولى:

   إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله، وأصحابه, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

   فيا عبادَ الله:  {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ }([1]).

   أيها الناس أنتم في أيام عظيمة عظم الله شأنها وأقسم بها في كتابه الكريم فقال: {وَالْفَجْرِ‌ ﴿١وَلَيَالٍ عَشْرٍ‌ ﴿٢وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ‌ ﴿٣وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ‌ ﴿٤هَلْ فِي ذَٰلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ‌ }([2]). وقال النبي –صلى الله عليه وسلم- في فضلها: {ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر} قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: {ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء} [رواه البخاري والترمذي واللفظ له] ([3]). وقال عليه الصلاة والسلام: {ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه من العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن: من التهليل، والتكبير، والتحميد} [رواه أحمد] ([4]). ومن أعظم الأعمال الصالحة في أيام عشر ذي الحجة الصيام؛ لقول النبي –صلى الله عليه وسلم-: {ما من عبد يصوم يوماً في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً} [متفق على صحته] ([5])، وآكد الصيام وأفضله في عشر ذي الحجة صيام يوم عرفة لغير الحاج؛ لقول النبي –صلى الله عليه وسلم-: {... صيامُ يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله، والسنة التي بعده...} ([6]).

وينبغي للمسلم إذا كان عليه قضاءٌ من صيام الفرض أن يبادر إليه قبل يوم عرفة؛ لأن صيام الفرض مقدمٌ على صيام التطوع؛ وليحصل على فضل هذا الصيام العظيم في هذا اليوم العظيم.

ومن الأعمال العظيمة في عشر ذي الحجة وفي أيام التشريق كذلك التقرب إلى الله تعالى بذبح الأضحية أو نحرها: من الغنم، أو الإبل، أو البقر؛ وسُمِّيت بذلك والله أعلم؛ لأن أفضل زمنٍ لذبحها أو نحرها ضحى يوم العيد، والأضحية مشروعة بالكتاب بقوله تعالى: { فَصَلِّ لِرَ‌بِّكَ وَانْحَرْ‌}([7]). وأما السنة؛ فلحديث أنس رضي الله عنه قال: {ضحَّى النبي –صلى الله عليه وسلم- بكبشين، أملحين، أقرنين، ذبحهما بيده، وسمَّى وكبَّر ووضع رجله على صفاحهما}. وفي لفظ لمسلم ويقول: {بسم الله والله أكبر}. وفي لفظ للبخاري: قال أنس رضي الله عنه: {كان النبي–صلى الله عليه وسلم- يضحِّي بكبشين، وأنا أضحي بكبشين}([8]). وقد أجمع المسلمون على مشروعية الأضحية، وهي سنة أبينا إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، حين فدى الله ولده بذبحٍ عظيم وقال سبحانه وتعالى: {فَبشَّرْ‌نَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ ﴿١٠١فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَ‌ىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ‌ مَاذَا تَرَ‌ىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ‌ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّـهُ مِنَ الصَّابِرِ‌ينَ ﴿١٠٢﴾ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ﴿١٠٣وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَ‌اهِيمُ ﴿١٠٤قَدْ صَدَّقْتَ الرُّ‌ؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴿١٠٥إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ ﴿١٠٦وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴿١٠٧وَتَرَ‌كْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِ‌ينَ ﴿١٠٨سَلَامٌ عَلَىٰ إِبْرَ‌اهِيمَ ﴿١٠٩كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}([9]).

والأضحية قيل: بأنها واجبة والصواب أنها سنة مؤكدة جداً لا ينبغي تركها لمن يقدر عليها، وعلى هذا أكثر أهل العلم؛ لأن النبي –صلى الله عليه وسلم- كان يضحي كل سنة، فهي سنة من قوله وفعله عليه الصلاة والسلام، والأحوط للمسلم أن لا يترك الضحية إذا كان موسراً له قدرة عليها اتباعاً لسنة النبي –صلى الله عليه وسلم-: القوليَّة، والفعليَّة، والتقريريَّة، وبراءة للذمة, وخروجاً من الخلاف عند من قال بالوجوب.

ولا تكون الأضحية على هدي رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إلا باجتماع شروطها، وانتفاء موانعها، وشروطها أربعة: أن تكون مِلكاً للمضحي، مَلَكَها بطريقٍ مشروع، وأن تكون من بهيمة الأنعام: من الإبل، أو البقر، أو الغنم، وأن تبلغ السن المعتبرة شرعاً، فلا يجزئ إلا الجذع من الضأن وهو ما له ستة أشهر ودخل في السابع، والثني من غيرها فيجزئ المعز الذي تمت له سنة ودخل في الثانية، والإبل إذا أتمت خمس سنين ودخلت في السادسة، والبقر إذا صار لها سنتان ودخلت في الثالثة؛ لقول النبي –صلى الله عليه وسلم-: {لا تذبحوا إلا مسنَّة}([10])، والمسنة هي الثنية، والجذع من الضأن مستثنىً من المسنة. ومن الشروط أن تكون الأضحية سليمة من العيوب المانعة من الإجزاء، ومن هذه العيوب ما ثبت في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه أنه قال: قام فينا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فقال: {أربعٌ لا تجوز في الأضاحي: العوراءُ البيِّنُ عورُها، والمريضة البيِّنُ مرضها، والعرجاءُ البيِّنُ ظلعُها، والكسيرة التي لا تنقى}([11]). فالعوراء البيِّن عورها: هي التي انخسفت عينها أو برزت، والمريضة البيِّن مرضها: هي التي ظهر عليها آثار المرض، والعرجاء البيِّن عرجها: هي التي لا تستطيع مرافقة السليمة، والكسيرة:  هي الهزيلة، ومعنى التي لا تنقى: أي التي ليس فيها مخ. ويُلحق بهذا الأربع: ما كان عيبه أعظم وأكبر من هذه العيوب: كالعمياء، ومقطوعة إحدى اليدين، وما شابه ذلك. وقد أضاف بعض العلماء نوعاً خامساً في عدم الإجزاء وهي العضباء: وهي ما ذهب نصف قرنها أو أذنها واحتجوا بحديث علي رضي الله عنه: {نهى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أن نضحِّي بعضباء القرن والأذن} [رواه أهل السنن وأحمد] ([12]). والعضب ما بلغ النصف فما فوق، واختاره الإمام الخرقي في مختصره، وابن قدامة، والشوكاني، وابن باز وغيرهم وهذا هو الأبرأ للذمة أن لا يُضحى بأعضب القرن والأذن خروجاً من خلاف العلماء.

ويكره في الأضاحي: المقابلة، وهي التي شقت أذنها من الأمام، والمدابرة وهي التي شقت أذنها من الخلف عرضاً، والشرقاء: التي شقت أذنها طولاً، والخرقاء: التي خرقت أذنها؛ لما روى علي رضي الله عنه مرفوعاً: {أمرنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: أن نستشرف العين والأذن، وأن لا نضحي بمقابلة، ولا مدابرة، ولا شرقاء، ولا خرقاء}([13]). والأفضل أن يُختار أكمل الأضاحي؛ لأن النبي –صلى الله عليه وسلم- كان يفعل ذلك، فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أمر بكبش أقرن: يطأ في سواد، ويبرك في سواد، وينظر في سواد، فأُتي به.. ثم ذبحه، ثم قال: {بسم الله، اللهم تقبَّل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد} ثم ضحَّى به. [رواه مسلم] ([14]). وعن عائشة رضي الله عنها: {أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- كان إذا أراد أن يضحي اشترى كبشين، عظيمين، سمينين، أقرنين، أملحين، موجوءين، فذبح أحدهما عن أمته، لمن شهد لله بالتوحيد، وشهد له بالبلاغ، وذبح الآخر عن محمد وعن آل محمد}. رواه ابن ماجه([15]).

وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: {كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يضحي بكبشٍ: أقرن، فحيل، ينظر في سواد، ويأكل في سواد، ويمشي في سواد} [رواه الأربعة إلا ابن ماجه] ([16]). وكان الصحابة يُسمِّنون الأضاحي، قال أبو أمامة رضي الله عنه: {كنا نسمِّن الأضحية بالمدينة، وكان المسلمون يسمِّنون} [رواه البخاري] ([17]). وهذا من تعظيم شعائر الله  {ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ‌ اللَّـهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} ([18]). وغير ذلك من الصفات الحسنة التي تزيد الأضحية كمالاً, وجمالاً؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً([19])، وقد كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يضحي بكبشين، فإذا أراد أحد أن يضحي بكبشين تأسياً بالنبي –صلى الله عليه وسلم- فلا حرج؛ ولهذا قال أنس رضي الله: {كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يضحي بكبشين وأنا أضحي بكبشين}. [متفق على صحته].

ويبدأ وقت ذبح الأضحية بعد صلاة العيد من يوم الأضحى، فـ {من ذبح قبل الصلاة فإنما ذبح لنفسه، ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين}([20]). ويمتد الذبح إلى غروب شمس اليوم الثالث عشر من أيام التشريق، فيكون الذبح أربعة أيام: يوم النحر، وثلاثة أيام التشريق. والشاة الواحدة تجزئ عن الرجل وأهل بيته، والبدنة من الإبل تجزئ عن سبعة، والبقرة عن سبعة؛ لحديث جابر رضي الله عنه قال: {خرجنا مع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- مُهلِّين بالحج فأمرنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منَّا في بدنة}. وفي لفظ: {حججنا مع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فنحرنا البعير عن سبعة، والبقرة عن سبعة}([21]).

ويأكل من أضحيته، ويتصدَّق، ويدَّخر؛ لقول الله تعالى: { لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُ‌وا اسْمَ اللَّـهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَ‌زَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۖ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ‌}([22])؛ ولحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه يرفعه إلى النبي –صلى الله عليه وسلم-: {كلوا، وأطعموا، واحبسوا أو ادخروا}([23]). وعن عبدالله بن واقد رضي الله عنه في بيان الأكل من الأضاحي عن النبي –صلى الله عليه وسلم-: {فكلوا، وادخروا، وتصدَّقوا}([24]).

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّـهِ رَ‌بِّ الْعَالَمِينَ ﴿١٦٢لَا شَرِ‌يكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْ‌تُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ }([25]). بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإيَّاكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله, وأصحابه, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين, أما بعد:

   فإن أحسن الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد –صلى الله عليه وسلم-، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

   عباد الله: اختموا هذه العشر المباركة بالاجتهاد في باقيها؛ فإن الأعمال بالخواتيم، واستقيموا بعدها على طاعة الله، واحذروا من معاصيه، واعلموا أن كثيراً من الناس يقعون في منكراتٍ يوم العيد، ومنها: أن بعضهم يدعو الأموات ويطوف بالقبور تعظيماً لها، وهذا من الشرك الذي حرَّمه الله تعالى وأوجب لصاحبه الخلود في النار. ومنها: الكبر واحتقار الناس. ومنها الإسبال في الثياب، والمشالح، والسراويل تحت الكعبين؛ فإن ما أسفل من الكعبين في النار، والله تعالى لا ينظر إلى مسبل إزاره, ولا يكلِّمه, ولا يُزكِّيه يوم القيامة, وله عذاب أليم([26]). والله عز وجل لا يحب المسبلين([27])، ومن المنكرات ضرب المزامير والمعازف الغنائية، وهذا ينبت النفاق في القلوب، كما ينبت الماء الزرع. ومن المنكرات حلق اللحى وتقصيرها ومعصية النبي –صلى الله عليه وسلم- بذلك. ومنها مصافحة النساء من غير المحارم. ومن المنكرات: التشبُّه بالكفار والمشركين في الملابس والأعياد وغير ذلك، ومنها تشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال، وقد لعن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- من فعل ذلك، ومن المنكرات في الأعياد الخلوة بالمرأة الأجنبية، وتبرُّج النساء وخروجهن من البيوت إلى الأسواق، ومن المنكرات التبذير والإسراف، والله تعالى لا يحب المسرفين، ومن المنكرات قطيعة الأرحام وعدم الاعتناء بالفقراء والمساكين.

   فاتقوا الله يا عباد الله، واتقوا غضبه وسخطه، وعقابه، والتزموا بطاعته تعالى.

   هذا وصلوا على خير خلق الله نبينا محمد بن عبدالله –صلى الله عليه وسلم-، ورضي عن أصحابه: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر أصحاب نبينا أجمعين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

   اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وانصر عبادك المؤمنين، اللهم اجعلنا لك طائعين ولنبيك متبعين، برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم تقبَّل منَّا، واغفر لنا، وارحمنا، واعفُ عنَّا، ياذا الجلال والإكرام. اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات. اللهم اغفر لأمواتنا وأموات المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.

{ إِنَّ اللَّـهَ يَأْمُرُ‌ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْ‌بَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ‌ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُ‌ونَ} ([28]) .  فاذكروا الله تعالى يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم،  {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ‌ ۗ وَلَذِكْرُ‌ اللَّـهِ أَكْبَرُ‌ ۗ وَاللَّـهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} ([29])



([1])  سورة آل عمران، الآية: 102.

([2])  سورة الفجر، الآيات: 1 - 5.

([3])  البخاري برقم (969)، والترمذي (757).

([4])  أحمد برقم (5446، 6154)، وصححه أحمد شاكر.

([5])  البخاري برقم (2840)، ومسلم (1153).

([6])  مسلم برقم (1162).

([7])  سورة الكوثر، الآية: 2.

([8])  البخاري برقم (5553)، ومسلم برقم (1966).

([9])  سورة الصافات، الآيات: 101 - 110.

([10])  مسلم برقم (1963).

([11])  أبو داود، برقم (280)، والترمذي برقم (1497)، والنسائي برقم (4369)، وابن ماجه (4144)، وصححه الألباني.

([12])  الترمذي برقم (1504)، وأبو داود برقم (3145)، وأحمد (1/129)، وصحح إسناده أحمد شاكر، وضعفه الألباني، وصححه الإمام ابن باز رحمه الله.

([13])  الترمذي، برقم (1498)، ورقم (1503)، واللفظ له، والنسائي برقم (4372)، وأبو داود برقم (4804)، وابن ماجه برقم (3142)، ورقم (3143)، وأحمد برقم (832)، ورقم (734، 826)، وصحح إسناده أحمد شاكر، وحسنه الألباني في إرواء الغليل (4/362).

([14])  مسلم برقم (1967).

([15])  ابن ماجه برقم (3122) وصححه الألباني.

([16])  أبو داود برقم (2796)، والترمذي برقم (1496)، والنسائي برقم (4402).

([17])  البخاري برقم (5553).

([18])  سورة الحج، الآية: 32.

([19])  فقد ثبت في أضحية النبي –صلى الله عليه وسلم- اثنا عشرة صفة: كبش، أقرن، أملح، قوائمه سود، بطنه أسود، ما حول عينيه أسود، وما حول فمه أسود، عظيم، موجوء، سمين، فحيل، ثمين.

([20])  البخاري برقم (5546)، ومسلم (1962).

([21])  مسلم برقم (1318).

([22])  سورة الحج، الآية: 28.

([23])  البخاري برقم (5569)، مسلم برقم (1974).

([24])  مسلم برقم (1971).

([25])  سورة الأنعام، الآيتان: 162، 163.

([26])  مسلم برقم (106).

([27])  أحمد (4/246، 250)، وسمعت الشيخ عبد العزيز ابن باز رحمه الله يقول: إسناده جيد.

([28])  سورة النحل، الآية: 90.

([29]) سورة العنكبوت، الآية: 45.

]]>
es.islamcenter@gmail.com (mona) الصوم Tue, 15 Jan 2013 16:17:21 +0000
اغتنام شهر رمضان http://islam-centers.net/ar/islamic-definition/article-islamic-definition/59-2010-06-15-14-12-04/500-2013-01-15-15-13-26.html http://islam-centers.net/ar/islamic-definition/article-islamic-definition/59-2010-06-15-14-12-04/500-2013-01-15-15-13-26.html Normal 0 false false false EN-US X-NONE AR-SA

اغتنام شهر رمضان

الخطبة الأولى:

إنّ الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أنّ لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له, وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله, صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه, وسلّم تسليما كثيرًا.

أمّا بعد:

فاتقوا الله - عبادَ الله - حقّ التقوى, واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى.

أيّها المسلمون:

فضَّل الله الليالي والأيام بعضَها على بعض, واصطفى من الشهور شهرًا جعله الله غرَّة شهور العام, أنزل فيه القرآن, وفتح فيه أبواب الجنان, وأغلقَ فيه أبواب النيران, وصفَّد فيه الشياطين، مَنْ صام نهاره إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدّم من ذنبه, ومن قام ليله إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدّم من ذنبه، وفيه ليلةٌ خيرٌ مِن ألف شهر، جعله - سبحانه - موسمًا للعفو والغفران، شهر الفضل والرحمة, يُستقبل بالفرح والاستبشار, {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58 ], شرعه الله لتحقيق التقوى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183 ].

والإخلاص ركنٌ في قبول العمل, فإن دخله رياءٌ فسد, وإن خالَطَه دعاءُ أموات أو استغاثة بهم حبط، والله - سبحانه - عزيز, لا يقبل من أحد عملًا كانت النية فيه لغيره, قال - عزّ وجلّ - في الحديث القدسي: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك, مَنْ أشركَ معي غيري؛ تركتُه وشركَه»؛ رواه مسلم.

والعمل الصالح المصحوب بالتقوى يزيد ويبقى, والعمل وإن كان صالحًا لكن فسدت في النيةُ يضمحلّ, قال - سبحانه -: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا} [الفرقان: 23 ].

والصلاة عمود الإسلام وركنه الثاني, مَنْ تركها لم تُقبل منه بقيةُ الأعمال مِنْ صيامٍ أو حجٍ أو إحسان, قال - عليه الصلاة والسلام-: «بين الرجل وبين الشرك والكفر تركُ الصلاة»؛ رواه مسلم.

وَمَنْ أصلح نيَّته مع الله, وأدَّى الصلوات كما أمر, ووافق شهر الصيام وقام به حق القيام فقدْ ظَفَر.

والزكاة قرينة الصلاة في كثير مِن آي القرآن, وأصلٌ مِن أصول الدين, تُطهّر النفس من البخل والشح, وتُنمِّي المال وتحفظه, وتنقل المرء إلى مصافّ الأخيار الكرماء, قال - جلّ شأنه -: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} [التوبة: 103 ], تقِي المرء من عقوبات الذنوب, وتصرف عنه عظيم المصائب والكروب, قال - عزّ وجلّ -: {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 5- 10 ].

أداء الزكاة أمارة الفلاح, وبرهانٌ على اليقين، وهي حقٌّ من حقوق الفقراء, يُعطِيها الغني لهم بلا مَنٍّ ولا إذلال، يُكمّل المرءُ بها دينه, ويحفظ بها ماله, قال - عليه الصلاة والسلام -: «مَنْ آتَاهُ اللهُ مَالًا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ - أي: ثعبانًا - لَهُ زَبِيبَتَانِ, يُطَوَّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فيَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ - أي: بشِدْقَيْهِ -، فَيقُولُ: أَنَا مَالُكَ, أَنَا كَنْزُكَ, ثُمَّ تَلاَ النبي –صلى الله عليه وسلم-: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 180 ]»؛ رواه البخاري.

مِن الزكاة تُقضَى الديون, وتُدفع بها حاجة الفقير والمسكين, ويُعانُ بها المسافر المنقطع, وتتألَّف القلوب, وهي مُدَّخرة عند الله؛ قرضٌ مضاعفٌ للغني, قال - عزّ وجلّ -: {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39 ].

ورمضانُ موسمُ البذل والعطاء, والبرّ والإحسان, وكان النبيُّ –صلى الله عليه وسلم- أجودَ النّاس, وأجود ما يكون في رمضان.

وإذا أراد الله بعبده خيرًا؛ جعل قضاء حوائج العباد على يديه, قال - عليه الصلاة والسلام -: «مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ في الدنيا والآخرة»؛ متفق عليه.

قال ابن حجر - رحمه الله -: «ومما يُعلمك بعظيم الفضل في هذا: أنّ الخلقَ عيالُ الله, وأحبُّهم إلى الله؛ أرفقُهم بعياله».

وما سعى ابنُ آدم في إصلاح شيءٍ أعظمَ من سعيه لإصلاح قلبه, ولن يُصلح القلبَ شيءٌ مثلُ القرآن, فهو النور والهداية والشفاء، تلاوتُهُ من أجلّ الطاعات وأفضل القربات, من قرأ حرفًا منه فله حسنة, والحسنةُ بعشر أمثالها, والماهرُ به مع السفرة الكرام البررة, والذي يقرأه ويتتعتَع به وهو عليه شاق له أجران.

ورمضان شهر القرآن, كان جبريل يُدارس النبيَّ –صلى الله عليه وسلم- القرآنَ في هذا الشهر، والقرآن أُنزل ليلًا, وتلاوته ليلًا أشد, لمواطأة القلب مع اللسان, فاجعلوا لبيوتكم حظًّا من قراءته في ليلكم ونهاركم.

وأفضل الصلاة بعد المفروضة صلاةُ الليل, ومَنْ قامها مع الإمام حتى ينصرفَ كُتب له قيام ليلة, ومَنْ قامها في ليالي رمضان غُفر له ما تقدّم من ذنبه، وكان النبي –صلى الله عليه وسلم- يقوم من الليل حتى تتفطَّر قدماه، والصحابة - رضي الله عنهم - سِيمَاهم في وجوههم من أثر السجود.

وما سجد عبدٌ لله سجدةً إلاّ رفعه الله بها درجةً, ومن كان من أهل الصلاة دُعِيَ يوم القيامة من باب الصلاة، وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأقبِلوا على صلاتكم فَرِحِين بها, مُستبشِرين بما وعدكم الله بأدائها.

والعبدُ لا غِنَى له عن ربه طرفة عين, والسعيد مَنْ قَرُبَ من الله بإنزال حوائجه إليه, بطلب مرغوبٍ, أو زوال مرهوب, مع تحرِّي أزمان وهيئات الإجابة؛ كالسجود, ووقت السحر, ونهار رمضان، وهو - سبحانه - قريبٌ مِنْ سائليه, ووعد بإعطاء السائل حاجته: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60 ], والإكثار من دعاء الله مِنْ كمال العبودية له, ورفعةُ العبد على قدر انكساره بين يدي الله.

والاعتكاف في رمضان من سنن النبي –صلى الله عليه وسلم-, لتطهير القلب من الأدران والخطايا, ولمحاسبة النفس من التقصير والتفريط, ولتُقبِل النفسُ على الله, لترتقي عنده درجات، فاجعل لشهرك من الاعتكاف نصيبًا.

ورمضان مغنمٌ للتوبة والإنابة, يُقِيلُ الله فيه العَثَرات, ويمحو فيه الخطايا والسيئات, فأقبلْ فيه على الله بالندم على التفريط, والعزم على مُجانبة الآثام, وهو - سبحانه - يُحب الآيب إليه, ويفرح بتوبة التائب.

فتعرَّضوا لنفحات ربِّكم, واستنزِلوا الرزق بالاستغفار, فأيام رمضان معدودة، اليومَ نستقبله, وغدًا نُودِّعه.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ} [البقرة: 183، 184 ].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم, ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, أقول ما تسمعون, وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ, فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه, والشكر له على توفيقه وامتنانه, وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشانه, وأشهد أنّ نبينا محمدًا عبدُه ورسوله, صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه, وسلّم تسليمًا مزيدًا.

أيّها المسلمون:

الدنيا سريعةُ الزوال, وشيكةُ الارتحال, وزوال بعضها مُؤذِنٌ بزوالها جميعها.

ورمضان موسم للرجوعِ إلى الله, والندمِ على التفريط وما مضى مِن سيئ الأعمال, والعزمِ على استدراك ما فات، وتعرَّضوا لنفحات ربكم, فكم فيه من عتيقٍ لله من النار, وكم فيه مِن فائزٍ بالرحمة والرضوان.

واحفظوا صومكم من الكذب والغيبة والرفث والفسوق, وطهِّروا قلوبكم من الحسد والحقد والضغائن, واجتهِدُوا في طاعة ربكم, واحذروا ضياعَ أزمانكم في اللهو والمحرمات, وليكن شهركم موسمًا لفعل الخيرات, والبُعْد عن السيئات.

ثمّ اعلموا أنّ الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه, فقال في محكم التنزيل: {إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56 ], اللهُم صلِّ وسلِّم وبارك على نبيِّنا محمد.

وارضَ اللهُم عن خلفائه الراشدين, الذين قضوا بالحق, وبه كانوا يعدلون: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ, وعن سائر الصحابة أجمعين, وعنَّا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين.

اللهُم أعِزَّ الإسلام والمسلمين, وأذِلَّ الشرك والمشركين, ودمِّرْ أعداء الدين, واجعل اللهُم هذا البلد آمنًا مطمئنًّا رخاءً وسائر بلاد المسلمين.

اللهُم إنّا نسألك الإخلاص في القول والعمل.

اللهُم تقبَّل منا صيامنا وقيامنا, اللهُم تقبل منّا الصيام والقيام.

ربنا آتنا في الدنيا حسنةً, وفي الآخرة حسنةً, وقِنا عذاب النّار.

ربنا ظلمنا أنفسنا, وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين.

اللهُم أعتق رقابنا من النّار, اللهُم أدخلنا الجنّة بغير حساب ولا عذاب, برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهُم وفِّق إمامنا لهداك, واجعل عمله في رضاك, ووفق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك, وتحكيم شرعك يا ذا الجلال والإكرام.

عبادَ الله:

{إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90 ].

فاذكروا الله العظيم الجليل؛ يذكرْكم, واشكروه على آلائه ونعمه؛ يزدْكم, ولذكر الله أكبر, والله يعلم ما تصنعون.

]]>
es.islamcenter@gmail.com (mona) الصوم Tue, 15 Jan 2013 15:12:52 +0000
أسرار العبودية في رمضان http://islam-centers.net/ar/islamic-definition/article-islamic-definition/59-2010-06-15-14-12-04/499-2013-01-15-15-02-28.html http://islam-centers.net/ar/islamic-definition/article-islamic-definition/59-2010-06-15-14-12-04/499-2013-01-15-15-02-28.html Normal 0 false false false EN-US X-NONE AR-SA

أسرار العبودية في رمضان

ألقى فضيلة الشيخ علي بن عبد الرحمن الحذيفي - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "أسرار العبودية في رمضان"، والتي تحدَّث فيها عن شهر رمضان؛ حيث إنه زمن العبادة والأعمال الصالحة، وذكر العديد من هذه الأعمال والطاعات لاسيما وقد أقبلَت أيام العشر من رمضان، فذكَّر بضرورة عناية المسلم بهنَّ والاجتهاد فيهنَّ.

الخطبة الأولى:

الحمد لله ذي العزِّ والكرم، أسبغَ على الخلق النعَم، وعافَى من شاءَ من النِّقَم، أحمد ربي وأشكره على آلائه الظاهرة والباطنة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو المعروف الذي لا ينقطع أبدًا، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبده ورسوله المبعوثُ بالهُدى، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أولي الفضل والتُّقى.

أما بعد:

فاتقوا الله حقَّ التقوى، وتمسَّكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقى.

أيها الناس:

إن هذا الدار ليست بدار قرار، فلكم في هذه الدنيا أعمارٌ محدودة وأيام معدودة، ثم تُنقَلون إلى دار الخلود إما نعيمٌ أبديٌّ مُقيم، وإما عذابٌ أليم، وقد قضى الله بعلمه وحكمته ورحمته أن الناس يُجزَون بأعمالهم في هذه الحياة، قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم: 31]، وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} [طه: 74- 76]، وقال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8].

وقال الله تعالى في الحديث القدسي: «يا عبادي! إنما هي أعمالكم أُحصيها لكم ثم أُوفِّيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمَد الله، ومن وجدَ غيرَ ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسَه»؛ رواه مسلم من حديث أبي ذرٍّ - رضي الله عنه -.

أيها المسلمون:

إن شهر رمضان المبارك زمانٌ لعمل الأعمال الصالحات كلها، ووقتٌ فاضلٌ لفعل الخيرات جميعها، وفيه تتضاعفُ الأجور بعظيم ثواب الحسنات، وقد جمع الله للمسلم في هذا الشهر مع الصيام إقامةَ الصلاة التي هي عمود الإسلام، والزكاةَ التي هي حقُّ المال ومواساةُ الفقراء، والنفقةَ على من يعولهم المسلم، والإحسانَ إلى المحرومين المُحتاجين.

كما جمع الله للمسلم في هذا الشهر العُمرة لمن تيسَّت له، وهي من أعمال الحج، ومنَّ الله تعالى في هذا الشهر بتلاوة القرآن الذي هو غذاءُ الروح، وفيه الهُدى والخيرُ كلُّه؛ فقد أنزل الله هذا القرآن في هذا الشهر المبارك، والقرآن يهدي إلى كل خير، وبه تقوى الروح، وتتهذَّبُ النفوس، وتتقوَّمُ الأخلاق.

وكذلك جمع الله في هذا الشهر مع الصيام الذكرَ الذي هو أزكى الأعمال، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبرَّ الوالدين، وصلةَ الأرحام، وأنواعَ البرِّ الأخرى.

وحفِظ الله بالصيامِ المسلمَ من المحرمات، لما صُفِّدت الشياطين وسُلسِلَت، فطُوبَى لكل مسلمٍ على ما وفَّقه الله له وأعانه عليه من الحسنات.

أيها المسلمون:

إن الله تعالى قد أقام الحُجَّة على المُكلَّفين، وأنزل على رسوله - صلى الله عليه وسلم - هذا القرآنَ العظيم، وحفِظَ لنا السنةَ النبوية، فلا يضلُّ من تمسَّك بهما ولا يشقَى أبدًا، وقد بيَّن الله لنا أعظمَ بيان أعمالَ أهل الجنة ودعانا إليها لنكون من المُقرَّبين إلى ربنا في جنات عدنٍ مع النبيين - صلى الله وسلم عليهم أجمعين -.

فمما أنزل الله من كتابه: قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 133- 136].

وقولَه تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 63- 70].

وقال - صلى الله عليه وسلم -: «سبعةٌ يُظلُّهم الله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه: إمامٌ عادل، وشابٌّ نشأ في عبادة الله، ورجلٌ قلبُه مُعلَّقٌ بالمساجد، ورجلٌ تصدَّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شِمالُه ما تُنفِقُ يمينُه، ورجلان تحابَّا في الله اجتمعا عليه وتفرّقا عليه، ورجلٌ دعَتْه امرأةٌ ذاتُ منصبٍ وجمال فقال: إني أخافُ اللهَ ربَّ العالمين، ورجلٌ ذكرَ اللهَ خاليًا ففاضَت عيناه»؛ رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة.

كما بيَّن الله لنا أعمال أهل النار أعظمَ بيان لنبتعِد عنها، قال الله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} [المدثر: 42- 47]، وقال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59] وهو وادٍ في جهنم.

فاسلُك - أيها المسلم - في هذا الشهر وفي غيره سبيلَ المُهتدين، واعمل بأعمال الصالحين، وابتعِد عن سُبُل الغاوين الفاسقين لتفوزَ بجوار رب العالمين، وتنجُو من العذاب المُهين.

عباد الله:

إن شهرَكم الكريم قد ولَّت أكثرُ أيامه وانقضَت، فاختِموه بخير ما تقدِرون عليه من الصالحات، فالأعمالُ بالخواتيم، وأنتم تستقبِلون لياليَه العشر أفضلَ الليالي، وقد كان رسولُنا - صلى الله عليه وسلم - يجتهِد في العشر ما لا يجتهِدُ في غيرها رجاء موافقة ليلة القدر، فمن قام ليلة القدر فقد فاز بالخيرات ونجا من الكُربات والحسرات، ومن حُرِمها فقد حُرِم الخير.

وما أعظمَ قولَ النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها: «من قام ليلةَ القدر إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه»؛ رواه البخاري.

فقدِّم - أيها المسلم - ما تنالُ به رضوانَ رب العالمين، وتُقيمُ به أبدًا في جنات الخُلد التي لا ينفَدُ نعيمُها، ولا يبلَى شبابُها، ولا يتحوَّلُ عنها أهلُها، نعيمُهم في ازدياد قد حلَّ عليهم الرضوانُ من رب العباد، قال الله تعالى في هؤلاء أهلِ كرامته: {يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ} [الزخرف: 68- 73].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وقوله القويم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب الأرض والسماوات، الذي وفَّق من شاءَ لفعل الحسنات وترك المُنكرات، ومنَّ على أمة الإسلام بالفضائل والخيرات، أحمدُ ربي وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وليُّ الكلمات مُجيبُ الدعوات، وأشهد أن نبينا وسيدَنا محمدًا عبده ورسوله أفضلُ المخلوقات، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحبه ذوي العلم والمكرُمات.

أما بعد:

فاتقوا الله في سرِّكم وعلانيتكم يُصلِح لكم أمورَكم، ويُزكِّ أعمالكم، ويغفِر ذنوبَكم.

أيها المسلمون:

إن طرق الخير كثيرة، وأبواب الحسنات واسعة، فاحرِص على كل خير، واحذر كل شرٍّ، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77]، وقال تعالى: {وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 223].

عباد الله:

إن شهركم شهرُ الخير والإحسان؛ عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان رسول - صلى الله عليه وسلم - أجودَ الناس، وكان أجودَ ما يكون في رمضان، فلرسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حين يلقاه جبريل أجودُ بالخير من الريحِ المُرسَلة؛ رواه البخاري ومسلم.

معشر المسلمين:

إن لكم إخوةً قد أثقلَتهم الديون، وغيَّبَتهم السجون، ولازمَتهم الهُموم، وانقطَعوا عن أُسرهم، وفقد مُجالسَتَهم أقرباؤهم وجيرانُهم، فهم أحياءُ كأموات، هم بحاجةٍ إلى من يُضمِّدُ جراحَهم، ويُخفِّفُ آلامَهم، ويُدخِلُ السرورَ عليهم وعلى ذوِيهم في شهر الإحسان؛ بتفريجِ كُربَتهم بالعطف عليهم، والصدقة التي تقضي ديُونَهم، وهم أهلٌ للزكاة؛ فالزكاةُ تكافلٌ اجتماعيٌّ بين المسلمين.

ولو أدَّى الأثرياءُ زكاةَ أموالهم للمُستحقِّين والمُحتاجين لكفَت الزكاةُ ذوي الحاجات، ولوُفِّق الأثرياءُ إلى أعظم الحسنات.

وإدخالُ السرور على المسلم من أكبر القُربات، قال - صلى الله عليه وسلم -: «من فرَّج عن مسلمٍ كُربةً من كُرَب الدنيا فرَّج الله عنه كُربةً من كُرب يوم القيامة، ومن يسَّر على مُعسِرٍ يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة»؛ رواه مسلم.

وما أسعدَ من جمع بين الأُسرة وعائلها المسجون بعد طول الغياب، وفقد الأحباب، عسى الله أن يجمع بينه وبين أحبَّته في دار السرور والحُبور.

فتآخَوا - معشر المسلمين - بينكم بروح الله، وتراحَموا بأُخُوَّة الإسلام، وسُدُّوا حاجةَ الفقراء والمُحتاجين، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: «ابغُوني في الضعفاء» - يعني: قوموا بحاجتهم - «فإنما تُنصَرون وتُرزقون بضعفائكم».

ودعوةٌ صالحةٌ يفوزُ بها مُنفِقٌ في خيرٍ وإحسان خيرٌ له من الدنيا وما فيها، ومُدُّوا يدَ العون إلى إخوةٍ لكم عضَّتهم المجاعة وأصابَهم البُؤسُ في بعض البُلدان، فمالُ المسلم في الحقيقة هو ما قدَّم لنفسه لا ما أخَّر بعده للورثة.

ولا تنسَوا المسلمين في هذا الشهر المبارك من الداء الصالح أن يكشف الله كُروبَهم ويُصلِح حالَهم وألا يُسلِّط عليهم من لا يخافُ اللهَ فيهم ولا يرحمهم.

عباد الله:

{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «من صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا».

فصلُّوا وسلِّموا على سيد الأولين والآخرين، وإمام المرسلين، اللهم صلِّ على محمد، كما صلَّيتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، اللهم بارِك على محمد وعلى آل محمد، كما بارَكتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.

اللهو وارضَ عن الصحابة أجمعين، وعن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابة أجمعين برحمتك يا أرحم الراحمين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، اللهم وارضَ عنا معهم بمنِّك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الكفر والكافرين يا رب العالمين.

اللهم انصر دينَك وكتابَك وسنةَ نبيك يا قوي يا عزيز

اللهم ألِّف بين قلوب المسلمين، وأصلِح ذات بينهم يا ذا الجلال والإكرام، واجمعهم على كلمة الحق إنك على كل شيءٍ قدير.

اللهم اقمَع وأذِلَّ البدعَ إلى يوم الدين، اللهم اقمَع وأذِلَّ البدعَ واخزِ البدعَ التي تُحاربُ دينَ نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى يوم الدين يا رب العالمين، اللهم وانصر هدي نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم - وأظهِر هدي نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم - في كل زمان ومكان إلى قيام الساعة يا رب العالمين.

اللهم أرِنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعَه، وأرِنا الباطلَ باطلاً وارزُقنا اجتنابَه، ولا تجعله مُلتبِسًا عليه فنضِلّ يا رب العالمين.

اللهم احقِن دماء المسلمين، واحفظ أموالَهم وأعراضَهم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم يا رب العالمين احفَظ لنا ولهم الدين إنك على كل شيءٍ قدير.

اللهم اجعل الدائرةَ على أعداء الإسلام يا رب العالمين، اللهم اجعل الدائرةَ والخِزيَ والنَّكالَ على أعداء الإسلام يا رب العالمين الذين يُحارِبون دينَك وأولياءَك يا رب العالمين، إنك على كل شيءٍ قدير.

اللهم أصلِح أحوالَ المسلمين، اللهم أصلِح ذاتَ بينهم، اللهم اغفر لموتانا وموتى المسلمين، اللهم اقضِ الدَّين عن المدينين من المسلمين، اللهم واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين يا رب العالمين.

اللهم أعِذنا وأعِذ ذرياتنا من إبليس وذريته وشياطينه وجنوده يا رب العالمين إنك على كل شيء قدير، اللهم أعِذ المسلمين وذرياتهم من إبليس وشياطينه يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم وفِّقنا لهُداك، اغفر لنا ما قدَّمنا وما أخَّرنا، وما أسرَرنا وما أعلنَّا.

اللهم يا ذا الجلال والإكرام اجعلنا ممن وفَّقتَه للصيام والقيام، اللهم اجعلنا ممن غفرتَ ذنبَه يا رب العالمين.

اللهم أحسِن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجِرنا ومن خِزي الدنيا وعذاب الآخرة.

اللهم وفِّقنا لقيام ليلة القدر على ما تحبُّ وترضى يا رب العالمين، نسألك فعلَ الخيرات، وترك المنكرات، وحبَّ المساكين يا أرحم الراحمين، واحفظنا من مُضِلاَّت الفتن.

اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح اللهم ولاةَ أمورنا.

اللهم وفِّق خادمَ الحرمين الشريفين لما تحبُّ وترضى، ولما فيه عِزُّ الإسلام والمسلمين يا رب العالمين، اللهم أعِنه على ما فيه الصلاحُ للبلاد والعباد إنك على كل شيءٍ قدير، اللهم واجزِه خيرًا على نُصرته للمسلمين إنك على كل شيءٍ قدير، وعلى اهتمامه بأمور المسلمين يا رب العالمين، أصلِح بِطانتَه، ووفِّقه لما فيه رِضاك إنك على كل شيء قدير، اللهم وفِّق نائبَيْه لما تحبُّ وترضى، ولما فيه الخير للبلاد والعباد، ولما فيه عِزُّ الإسلام يا رب العالمين، إنك على كل شيء قدير.

اللهم إنا نسألك يا ذا الجلال والإكرام أن تختِم لنا بخواتيم الخير، وأن تجعلنا ممن ختمتَ له بالسعادة يا رب العالمين، لا تُغيَّر ولا تُبدَّل إنك ذو الفضل العظيم.

عباد الله:

{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [النحل: 90، 91].

واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

]]>
es.islamcenter@gmail.com (mona) الصوم Tue, 15 Jan 2013 15:01:53 +0000
التوبة والعشر الأواخر من رمضان http://islam-centers.net/ar/islamic-definition/article-islamic-definition/59-2010-06-15-14-12-04/498-2013-01-15-09-44-21.html http://islam-centers.net/ar/islamic-definition/article-islamic-definition/59-2010-06-15-14-12-04/498-2013-01-15-09-44-21.html Normal 0 false false false EN-US X-NONE AR-SA

التوبة والعشر الأواخر من رمضان

ألقى فضيلة الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "التوبة والعشر الأواخر من رمضان"، والتي تحدَّث فيها عن التوبة وأهميتها وضرورتها لكل مسلم محبٍّ لله تعالى، ومُتَّبعٍ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبيَّن إقبال الأيام الأخيرة من رمضان وهي الأيام التي يُستحبُّ فيها الاجتهاد والإقبال على الله تعالى بصنوف العبادات والطاعات، وذكَّر في الخطبة الثانية بإنجازات الدولة السعودية من لدُن الملك عبد العزيز - رحمه الله - إلى الملك عبد الله بن عبد العزيز - حفظه الله - خادم الحرمين الحالي، ومدى حزم وعزم هؤلاء الملوك في القيام بنهضة الدولة السعودية في كل مجالاتها.

الخطبة الأولى:

الحمد لله، الحمد لله وهو الكريم أسبغَ علينا نعمَه باطنةً وظاهرةً، والحمد لله وهو الرحيم لم تزَل ألطافُه علينا مُتظاهرة، والحمد لله وهو العزيز ذلَّت لعزَّته رِقابُ الجبابرة، أحمده - سبحانه - وأشكره وهو الشكور دامَت علينا نعمُه مُتكاثرةً مُتوافرةً مُتواترة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تُنجِي صاحبها في الدار الآخرة، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسوله المُؤيَّد بالآيات الكُبرى والمُعجِزات الباهرة، صلَّى الله وسلَم وبارَك عليه وعلى آله العِترة الطاهرة، وعلى أصحابه النجوم الزاهِرة، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله - عز وجل -، فاتقوا الله - رحمكم الله -؛ فكفى بالله مُحبًّا ومحبوبًا، وكفى برسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قدوةً ومتبوعًا، وكفى بالقرآن مُؤنِسًا ورفيقًا، وكفى بالموت واعِظًا، وكفى بخشية الله علمًا.

علامة الدين: الإخلاص لله في السر والعلَن، وعلامة الشكر: الرضا بالقضاء والقدر، وعلامة الحب: كثرة ذكر المحبوب؛ فاتبع - يا عبد الله - ولا تبتدع، وتواضَع ولا ترتفع، ومن ورِع لا يتسع، {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [القصص: 60].

أيها المسلمون:

استقامةُ النفوس وإصلاحُها، وتزكيةُ القلوب وتطهيرها مسالكُ تفتحُ أبوابَ الأمل من أجل حياةٍ أفضل ومسيرةٍ أزكى، النفوس لا تُحقِّق عزَّتها، والقلوب لا تُحصِّل سكينتَها إلا إذا تذلَّلَت لربها راضية، وخضعَت لخالقها راغِبة، وأقبلَت على مولاها خائفة، وسارَت إليه مُشفِقةً وجِلة؛ لتنالَ الأمنَ وتذوقَ لذَّة المناجاة، وحينئذٍ تطمئنُّ النفوس، وتنشرِحُ الصدور، وتستنيرُ القلوب، فالله - سبحانه - عند المُنكسِرة قلوبهم، الصادق تذلُّلهم.

أيها المسلمون، أيها الصائمون:

وهذه وقفةٌ مع عبوديةٍ من أحب العبوديات إلى الله وأكرمها عنده، عبوديةٌ تُنتِجُ للعبد آثارًا عجيبة من المقامات والمنازل، تُنتِج المحبة والرِّقة والانكسار والحمدَ والرضا والشكرَ والخضوعَ لله - عز وجل -.

عبوديةٌ قال فيها أهل العلم: "إنها من مهمات الإسلام وقواعده ومقاماته المتأكدة".

منَّةٌ من الله ونعمة لا تدَع ذنبًا إلا تناوَلَته، ولا معصيةً إلا محَتها، ولا تقصيرًا إلا جبَرَته، هذه العبودية وهذه المنَّة الإلهية والمنحةُ الربانية نهرٌ نميرٌ طاهرٌ يتطهَّرُ به العبدُ من أدرانه، إنها التوبة - يا عباد الله -، إنها العودة الغانمة، والتجارة الرابحة، والرياضُ التي لا يذبُلُ زهرُها.

التوبة - تقبَّل الله صيامَكم وقيامَكم - رجوعٌ إلى الله بالتزام فعل ما يحب باطنًا وظاهرًا، وترك ما يكره باطنًا وظاهرًا، دعاءٌ وتضرُّع وتذلُّل وإقرارٌ بحول الله وقوته، وقدرته ومشيئته، وعدله وحكمته، وفضله ورحمته، واعترافٌ بالضعف البشري والتقصير والحاجة.

التوبة - أيها التائبون -: ترك الذنب علمًا بقُبحه، وندمًا على فعله، وعزمًا على عدم العودة إليه، وتدارُكًا للأعمال الصالحة من غير تردُّدٍ أو انتظارٍ أو يأس، في إخلاصٍ لله وما عنده من عظيم الثواب وخوفٍ من أليم العقاب.

إخوة الإيمان:

وكل عبدٍ مُحتاجٌ إلى التوبة، مُفتقِر إلى الإنابة، فلا يُتصوَّر أن يستغنِي عنها أحد مهما بلغَ مقامُه، ومهما كانت طاعتُه وصلاحُه؛ بل هي خُلُق الأنبياء والمرسلين، فهي تُصاحبُ البشرية منذ أبيهم آدم - عليه السلام -: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 37]، {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23].

ونبيكم محمد - صلى الله عليه وسلم -: «يا أيها الناس! توبوا إلى الله؛ فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة».

معاشر الصائمين والصائمات:

بالتوبة النَّصُوح ينتقلُ العبدُ من المعصية إلى الطاعة، ومن الضعف إلى القوة، ومن الهَدم إلى الإصلاح، ومن الظلم إلى العدل والرحمة والإحسان، التوبة سدٌّ عظيمٌ أمام الفساد والمُفسِدين يعرِضها الإسلام على الكفار وعلى المحاربين والمرتدين وعلى كل المُفسِدين في الأرض مهما بلغَ كفرُهم وفسادُهم وطغيانُهم: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ} [الأنفال: 38]، وفي المحارِبين والمُفسِدين: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34].

بالتوبة الصادقة يتطهَّر المجتمع من المآثِم والجرائم ليقلَّ خطرُها ويُحاصَر أثرُها، بالتوبة يتجسَّد للعبد ذلُّ الحاجة، وذلُّ الطاعة والعبودية، وذلُّ المحبة والانقياد، وذلُّ المعصية والخطيئة، ومن اجتمع له ذلك كلُّه فقد خضَع لله تمام الخضوع، وحقَّق العبوديةَ والاستكانة.

وهل يُسكِنُ تأنيبَ الضمير وأوجاعَ النفوس إلا التوبة والذكر والاستغفار: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28].

أيها المسلمون:

هلا وقفتُم عند فرح الله بتوبة عبده؟! «للهُ أفرحُ بتوبة عبده من رجلٍ أضلَّ راحِلَته في فلاة وعليه متاعُه وطعامُه وشرابُه، حتى اشتدَّ عليه الحرُّ والعطش، فنام نومةً، ثم رفع رأسَه فإذا راحِلتُه عنده».

ألا يبهَرُ الصالحين هذا الترحابُ الغامِر؟ أتُرى سرورًا يعدِلُ هذه البهجةَ الخالصة؟ توبةٌ وأوبةٌ يفرحُ الله بها، فهي انتصارُ العبد على أسباب الضعف والنفس الأمَّارة بالسوء والشيطان الرجيم، إنه فرحُ الله البرِّ اللطيف المُحسِن الكريم الجواد الرحيم.

الله أكبر - عباد الله -؛ لقد جعل الله التوبةَ وسيلةً لمحبته وسبيلاً لفرحه، ولم يكن هذا الفرحُ من الله في شيءٍ من الطاعات غير التوبة، فرحُ إحسانٍ من العليِّ الأعلى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]، ربُّنا - عزَّ شأنه - يحب التوابين؛ لأن التائب المُوفَّق يكون في حالٍ من الوَجَل والإشفاق والانكسار والتذلُّل والتضرُّع والرجاء بأن يقبل الله توبتَه، ويغفِر زلَّته، ويتجاوز عن ذنبه، ويغسِل حوبَته، ويمحو خطيئتَه.

وهذه الأحوال من أفضل أحوال العبد التي يحبُّها الله، فالله يحبُّ من عبده أنه كلما أحدثَ زلَّةً أحدثَ لها توبةً، وهذا هو العبدُ التواب، والله التواب هو الحليم الكريم العفوُّ الغفور الجوادُ الرحيم.

توابون أوابون يشعرون بحب الله ومعيَّته؛ لأنهم لا يشعرون أنهم مُنفرِدون بهمِّهم، ولا وحيدون بمُصابهم؛ بل يأوون إلا ركنٍ شديد، ويلجئون إلى كنَفِ رحيم.

معاشر الصائمين والقائمين:

ووقفةٌ أخرى مع مظاهر هذه المحبة الإلهية والفرح الربَّاني، إنه تبديلُ السيئات حسنات: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 70]، فأيُّ جودٍ من ربنا أعظمُ من هذا؟ وأيُّ كرمٍ أوسع من هذا؟

نعم - عباد الله -؛ التوبة لا تمحو الذنب فقط؛ بل تُحوِّله حسنات تُضاف إلى رصيد الحسنات، الربُّ يتحبَّبُ إلى عبده وهو الغنيُّ، والعبدُ يُقدِمُ على التقصير وهو الفقير، «اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدُك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطَعت، أبوءُ لك بنعمتك عليَّ وأبوءُ بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوبَ إلا أنت».

ومن لُطف الله ورحمته وفرحه بتوبة عبده: أن العبدَ إذا كان له حسنات ثم عمِل سيئاتٍ استغرقَت هذه الحسنات، ثم تابَ بعد ذلك، فإن حسناته الأولى تعود إليه، يقول حكيمٌ بن حزام - رضي الله عنه -: قلتُ: يا رسول الله! أرأيتَ أشياء كنتُ أتحنَّثُ بها - أي: أتعبَّدُ بها - في الجاهلية؛ من صدقةٍ، وعِتاقٍ، وصلةِ رحِم؛ فهل فيها أجر؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أسلمتَ على ما أسلفتَ من خيرٍ»؛ متفق عليه.

قال الحافظ ابن حجر: "لا مانع أن يُضيف الله إلى حسناته في الإسلام ثوابَ ما كان صدر منه في الكفر تفضُّلاً وإحسانًا".

معاشر الأحبة من أهل الصيام والقيام:

حين يمُنُّ الله على العبد بالتوبة ويُبدِّلُ الله سيئاته حسنات كيف يكون حالُه وحالُ من حوله وحالُ المجتمع؟

تأمَّلوا في حال عاقِّ والدَيْه حين يمُنُّ الله عليه بالتوبة فيصلُح حالُه، ويعزِمُ على التوبة النَّصوح، فيُقيمُ على أنقاض العقوق صروحَ البرِّ والإحسان، فيبَرَّ والدَيْه ويصِلَهما، ويُغدِق عليهما، ويُحسِن حديثَه إليهما، ويخفِضَ الجناحَ لهما، ويدعُو لهما، {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء: 25].

وحين يمُنُّ الله على قاطع الرحِم، فتزول عنه الغِشاوة، فيرى تفريطَه في قرابته، وقطيعتَه لأهله فيفِرّ - بعون الله - إلى التوبة، فلا يقف عند الندم والاعترافِ بالخطأ والاستغفار؛ بل يُسارِع إلى وصلِ رحِمِه، ويُؤسِّس لعهدٍ جديدٍ مع الأقربين في الزيارات والاتصالات والمساعدات وقضاء الحوائج قدر المُستطاع.

وما أجمل حُسن المتاب للمُغتاب؛ فبعد أن كان يتتبَّعُ السلبيات وكشفَ العورات وبثَّ الأخبار المُغرِضة، والشائعات الكاذِبة، والازدراء والانتقاص يتوبُ إلى ربه، ويؤوبُ إلى فضل الله ورحمته، فلا يكتفِي بكفِّ لسانه عن الحرام والممنوع؛ بل ينتقل إلى ذكر المحاسن، ونشر الفضائل، والتماسِ الأعذار، وسدِّ النقائص، {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 12].

وما أجمل من ابتُلِي بنشر الرذائل؛ كلمةً، وصوتًا، وصورةً، ذكرًا أو أُنثى، حين يُزيِّنُ الفواحِش، ويُحبُّ أن تشيعَ الفاحِشةُ في الذين آمنوا، في قصصٍ وأفلامٍ ورواياتٍ وتمثيليات وكتاباتٍ ومقالاتٍ ومُنتجات؛ نعم، منَّ الله عليه فتابَ وآمنَ وعملَ عملاً صالحًا، أعمالاً صالحة تدفِنُ الماضي الذين أفنى فيه زهرَة عُمره، فيدعو إلى الخير والفضيلة والالتزام بقِيَم الإسلام؛ في مُؤلَّفاتٍ ومُنتجاتٍ، هذا خيرٌ ممن يقتصر على سلوك مسلك الاعتزال عن ماضيه، وإن كان هذا الاعتزالُ حسنًا وخيرًا ولكن أن يمُنَّ الله عليه فيكتُب ويُؤلِّف ويُبيِّن مواطن الخطأ، ويصدُّ عن مسالك الغواية، ويرسمُ مناهج الحق، فهذا خيرٌ وأولَى وأصلَح.

وما أجمل صاحب المظالم وقد منَّ الله عليه بتوبةٍ نصوحٍ وندمٍ عريض، فيرجعُ إلى ربه، ويردُّ المظالمَ إلى أهلها، ويُعيدُ الحقوقَ إلى أصحابها ماديةً ومعنوية، ماليةً وسياسية وفكريةً وغيرها.

وبعدُ، عبا الله، وبعدُ، معاشر الإخوة:

فهذه هي قوافل التائبين ومراكب الناجين؛ فهل شممتَ ريحًا أطيبَ من أنفاس التوابين؟ وهل رأيتَ أعذبَ من دموع النادمين؟ وهل شاهدتَ أجملَ من لباس المُنكسِرين؟ بل هل سمعتَ نداءً أجمل وألطفَ وأرقَّ من نداء رب العالمين: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]، {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110].

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله، الحمد لله برحمته اهتدى المُهتدون، وبعدله ضلَّ الضالون، لا يُسأل عما يفعلُ وهم يُسألون، أحمده - سبحانه - وأشكره على ترادُف آلائه، وقليلٌ من عباده الشاكرون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تنزَّه عن الصاحبة والولد، وسبحان الله وتعالى عما يصفون، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسولُه وخليلُه الأمين المأمون، صلّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ ومن هم بهديه مُستمسِكون، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد، معاشر الأحبة:

كلما قوِي سلطان محبة الله في القلب كان اقتضاؤه للطاعة وترك المخالفة أقوى، وبضعف المحبة تقوى جاذبيةُ المعصية، وتظهرُ المحبة حين تقترِنُ بالحياء من الله وإجلاله وحُسن مراقبته، والمسلمون في هذه الأيام المباركة أيام شهر رمضان المبارَك؛ بل هم في إقبال هذه العشر الأخيرة أكثر حياءً وأكثر محبةً وأعظمُ رجاءً، كيف وقد اجتمع لكم - يا أهل الحرمين - مواطنين ومُقيمين وزوَّارًا، اجتمع لكم شرفُ الزمان وشرفُ المكان، تعيشون قُدسية المُقدَّسات، ونفحات البركات، مُقبلين على عباداتكم وصلواتكم وأذكاركم ببُشرٍ وابتهاجٍ وأنتم ترون من المُنشآت وتعيشون من الإنجازات ما يُثيرُ اعتزاز كل مسلم، ويُبهِجُ كل مُتعبِّد، ويُهيِّيءُ أجواءً العبادة لكل مُتنسِّك.

أيها الإخوة الأحبة:

هذه الدولة السعودية المباركة أقامت دولةً موحَّدة مُترامية الأطراف، لمَّت شتاتَ الأمة، وأرسَت قواعدَ الحكم على كتاب الله وسنة رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - في خِضَمِّ صراعاتٍ حادَّة وتياراتٍ مُتصارعة، هذا المؤسس الملكُ عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود - رحمه الله - بعد ملحمة التوحيد، وبعد أن استقرَّ الحكم واطمأنت البلادُ وأهلُها بدأ التعمير والبناء في الدولة.

ومن أظهر مظاهر التعمير وأول المواقع وأولاها: البِقاع الطاهرة؛ الحرمان الشريفان والمشاعر المُقدَّسة، فكانت محلَّ العناية من الملك المُؤسِّس ثم أبنائه الملوك من بعد: سعودٍ وفيصل وخالدٍ وفهد، وأنتم في هذا العهد الزاهر المُتمِّم لعهود والده وإخوانه خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، لم تعتزَّ الدولة السعودية مثل اعتزازها بهذه الخدمات الجليلة، ولم تتردَّد لحظةً واحدة في بذلٍ غير مقطوعٍ ولا ممنوع في كل ما يخدِمُ هذه البقاع الطاهرة.

أما حينما يسَّر الله علينا من فضله وفتح لنا من خزائنه فكان من أظهر مظاهر الشكر والتحدُّث بالنعمة أن تكون الأولوية للبقاع الطاهرة والديار المُقدَّسة، اهتمامٌ وعنايةٌ تُناسِبُ مع مكانة المكان وقُدسية المُقدَّسات وتطلُّعات المسلمين وخدمة المُتعبِّدين.

لقد أراد الله - بمنِّه وفضله وكرمه - أن يحظَى ولاة أمر هذه البلاد بشرف هذه الأعمال العظيمة، والجهود المباركة، والإنجازات الضخمة، إن كل ما يُستطاعُ تقديمُه، وكل ما يُمكنُ بذلُه فلن تتردَّد الدولة في الإقدام عليه والمُبادرة إلى تنفيذه في تخطيطٍ ودراسةٍ ودراية، مهما كلَّف من جهدٍ ومالٍ وتخطيطٍ وتنفيذ، فلله الحمد والشكر والفضل والمنَّة.

ولقد أقرَّ الله عليه المسلمين في كل مكان وتحقَّقت همَمُ الملوك فانتصَبَ الحرمان الشريفان والمشاعرُ المُقدَّسة كأكبر مشروعاتٍ نُفِّذَت في العالم مهما كانت ضخامَتُها، إنها مشاريع هي المعالمُ الأبرز على مستوى العالم الإسلامي كله، مُتميِّزةً بكل المعايير، ومُتقدِّمةً بكل المقاييس، وقد ضمَّت وتضمَّنت من التفاصيل الفنية أوفاها، ومن التقنيات المعاصِرة أرقاها، ومن الخامات أجودَها، في أعلى المعايير المهنية، في مُنشآتٍ حضاريةٍ شامِخة تجمعُ بين الأصالةِ والمعاصرة.

وحين يكتمل المفهوم الحضاري ومن أجل توظيف ما أظهره الله في هذا العصر من تِقنياتٍ وإمكانياتٍ ووسائل ومُعدَّاتٍ وآلات؛ فقد كانت العنايةُ بالمرافق؛ من تكييفٍ وإضاءة وسِقاية وصوتيات وساحات وميادين وشوارع وأنفاق وجُسورٍ وقطارات، وأنظمة تحكُّم، واستعدادٍ لحالات الطوارئ، كل ذلك في أعلى المواصفات وأدق مستويات الأداء؛ في صورةٍ حيَّة لتِقنيَّات المعمار الحديث، تُعبِّر عن الجناب القُدسي، والسموِّ الجمالي.

إننا نحسبُ أنها إنجازاتٌ شاهِدة ماثِلة يعرفُ قيمتَها ويقدُر قدرَها كلُّ من يراها، ويبهَرُ ببهائها كلُّ من يُشاهِدُها، نعم؛ المواطن يشهد، والمُقيم يشهد، والزائر يشهد، والطائف والعاكف والبادِي يشهدون، ومُشاهد التلفاز يشهد، والخبير يشهد؛ بل الإنجاز الشامخ قبلهم وبعدهم هو الشاهد والمشهود في شهاداتِ عدلٍ محليةٍ ودولية على هذه الإنجازات البهية الباهرة.

كل ذلك؛ وإن أفضل الأعمال أبقاها، وأحسنَها أخلدُها، وستبقى هذه الإنجازات السعودية في سجلِّ الخالدين - بإذن الله -.

ومن العجب - أيها المسلمون - أن هذه الدولة - وقد وفَّقها الله إلى هذه العناية والرعاية والخدمات والإنجازات - لم يكن هذا هو تميُّزها الوحيد؛ بل إن من فضل الله عليها أنها لم تكن بعيدةً عن أشقائها في جميع مراحل الأزمات؛ السياسية والاقتصادية والإنسانية، فهي راعيةُ التضامُن الإسلامي، وراعيةُ الحوار، ودولةُ المُبادرات، والمُترفِّعة عن الخلافات.

ويأتي خادمُ الحرمين الشريفين الملكُ عبدُ الله بن عبد العزيز آل سعود ليُعلِن بمُبادراته ووقفاته التاريخية المسؤولة، وبمصداقيته المعهودة، وصفائه الجلِيّ، وأخلاقه العربية والإسلامية ليحمِل همَّ أشقائه حكوماتٍ وشعوبًا.

وحينما دخلت بعضُ البلدان الشقيقة فيما دخلت فيه من اضطراباتٍ ومُشكلاتٍ وأزماتٍ أسهمَ إسهاماته المحسوبة، وخطَى خُطواته المُتأنية في منهجٍ عقلاني، وسياساتٍ حكيمة، ومُبادراتٍ مُتأنية، ونهجٍ مُتوازن، وهو النهجُ الأنجَع في منطقةٍ قلِقة وأجواءٍ مُضطربة.

ملكٌ ينظر بنظرٍ شموليٍّ في قضايا الأمة الكُبرى ويترفَّع عن الصغائر فضلاً عن أن يقف عندها، منهجٌ عقلاني وسياسةٌ حكيمة، تحمي الأبرياء، وتأبَى سفكَ الدماء، بعيدًا عن الشعارات والمُساومات، وليس هو الذي يقِفُ مع الحكومات ضدّ شعوبها، ولا مع الشعوب ضد حكوماتها، ولكنه بصدقِه ونقائه وحبه وإخلاصه وحكمته يقف مع المصلحة والإصلاح في عزمٍ وحزمٍ وغيرةٍ وحميَّة.

ليس مُناهِضًا للعادل من المُطالبات، ولا للنافع من التغييرات، ولكنه مُعارضٌ للقتل والخراب والتدمير، إنها السياسات التي تحسِبُ لعواقِب الأمور حِسابَها، وتنظر في المآلات ونهاياتها، مع الحرص الشديد على تجنُّب المزالِق الضيقة والدهاليز المُلتوية، بعيدًا عن الفتن والضغائن.

نداءاتُ مليكنا ومُبادراته ذاتُ مضامين عملية وأساليب واضحة تحمِلُ مشاعر الصدق والمحبة، ومشاعيل الرجاء والأمل.

إنه قائدُ الأمة الذي يقفُ مُتساميًا فوق كل المواقف يصدَعُ بالحق وينحازُ إليه، القائد الملكُ الصالح الذي لا يُساوَم على دينه وعروبته وغيرته على أمته.

بارك الله في الجهود، وسدَّد الخُطى، وهدى للتي هي أقوم، وأصلح الله شأن الأمة كله، وحفِظ عليها أمنها وإيمانها ووحدة ديارها وجمع كلمتها، إنه سميعٌ مُجيبٌ.

ألا فاتقوا الله - رحمكم الله -، {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31]، فكل ابن آدم خطَّاء، ولكن عفوَ الله أعظم، والزلَلُ كبير، ورحمةُ الله أوسع، فسارِعوا إلى رحمةٍ من ربكم، واستغِلُّوا شريفَ أيامكم، وتعرَّضوا لنفحات ربكم، وأرُوا اللهَ من أنفسكم خيرًا.

ثم صلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيكم محمدٍ رسول الله، فقد أمركم بذلك ربُّكم في محكم تنزيله، فقال - عزَّ شأنه -: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].

اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبينا محمد الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واخذل الطغاة والظلَمة والملاحدة وسائر أعداء الملَّة والدين.

اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.

اللهم وفِّق إمامنا ووليَّ أمرنا بتوفيقك، وأعِزَّه بطاعتك، وأعلِ به كلمتك، واجعله نُصرةً للإسلام والمسلمين، واجمع به كلمة المسلمين على الحق والهدى يا رب العالمين، اللهم وفِّقه ونائبَيْه وإخوانهم وأعوانهم لما تحب وترضى، وخُذ بنواصيهم للبر والتقوى.

اللهم إن لنا إخوانًا مُستضعفين مظلومين قد مسَّهم الضرُّ، وحلَّ بهم الكرب، واشتدَّ عليهم الأمر، تعرَّضوا للظلم والطغيان، سُفِكت الدماء، وقُتل الأبرياء، ورُمِّلت النساء، ويُتِّم الأطفال، اللهم يا ناصر المُستضعفين ويا مُنجِي المؤمنين اللهم انتصر لهم، وتولَّ أمرهم، واكشف كربَهم، وارفع ضُرَّهم.

اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم احقِن دماءهم، واجمع على الحق والهدى كلمَتهم، وولِّ عليهم خيارَهم واكفِهم أشرارهم، وابسُط الأمنَ والعدلَ والرخاءَ في ديارهم، وأعِذهم من الشرور والفتن ما ظهر منها وما بَطَن.

اللهم وارفع عنا وعنهم الغلا والوبا والربا والزنا والجوع والعُرِيّ والزلازل والمِحَن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بَطن عن بلدنا وعن سائر بلاد المسلمين يا رب العالمين.

اللهم عليك باليهود الغاصبين المحتلين، اللهم عليك باليهود الغاصبين المحتلين فإنهم لا يُعجزونك، اللهم أنزِل بهم بأسك الذي لا يُردُّ عن القوم المجرمين، اللهم إنا ندرأُ بك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم.

اللهم وفِّقنا للتوبة والإنابة، وافتح لنا أبوابَ القبول والإجابة، اللهم تقبَّل طاعاتنا ودعاءنا وصيامَنا وقيامَنا، وأصلِح أعمالنا، وكفِّر عنا سيئاتنا، وتُب علينا، واغفر لنا يا أرحم الراحمين.

سبحان ربك رب العزة عما يصِفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

]]>
es.islamcenter@gmail.com (mona) الصوم Tue, 15 Jan 2013 09:43:49 +0000
رمضان والرحيل المر http://islam-centers.net/ar/islamic-definition/article-islamic-definition/59-2010-06-15-14-12-04/497-2013-01-15-09-32-13.html http://islam-centers.net/ar/islamic-definition/article-islamic-definition/59-2010-06-15-14-12-04/497-2013-01-15-09-32-13.html 1024x768

رمضان والرحيل المر

وهاهو أسبوعُ أيُّها الأحبةُ يمضي بعدَ رحيلِ رمضان ، بعد رحيلك أيُّها الحبيبُ رمضان ، و يا لَهَا من أيامٍ مُرَّةٍ المذاق، ليسألَ كلُّ إنسانٍ منَّا نفسَه : كيفَ حالُكِ أيَّتُها النَّفسُ بعدَ رَمَضَان ؟!

أيُّها الإخوةُ لقد تعمَّدتُ تأخيرَ هذا الموضوعِ إلى هذه الأيامِ لنقارنَ بينَ حالِنا في رمضان و حالنا بعدَ رمضان ، رغم أنَّه لم يَمضِ عليه سوى أيامٍ ..

إيهٍ أيَّتُها النفس ! كنتِ قبلَ أيامٍ في صلاةٍ وصيام ، وتلاوةٍ وقيام ، ذكرٍ ودعاء ، وصدقةٍ وإحسانٍ وصلةٍ للأرحام، قبل أيامٍ كُنَّا نشعرُ برقةِ القلوب و اتصالِها بعلاَّمِ الغيوب .

كانت تُتلى علينا آياتُ القرآن ، فتخشعُ القلوبُ و تدمعُ العيون،فنزداد إيماناً وخشوعاً وإخباتاً لله سبحانه وتعالى، ذُقنا حلاوةَ الإيمانِ وعرفنا حقيقةَ الصِّيَام،ذُقنَا لذَّةَ الدمعةِ، وحلاوةَ المناجاةِ في السَّحَر .

كُنَّا نصلِّي صلاةَ من جُعِلَت قرةُ عينِهِ في الصَّلاة ،وكنَّا نصومُ صيامَ من ذاق حلاوتَه و عرف طعمَه ،وكنَّا ننفقُ نفقةَ من لا يخشى الفقر ! كُنَّا و كُنَّا ممَّا كُنَّا نفعلُهُ في هذا الشَّهر المباركِ العظيمِ الذي رَحَلَ عنَّا ..

وهكذا نتقلبُ في أعمالِ الخيرِ و أبوابِهِ حتَّى قال قائلُنا : يا ليتني مُتُّ على هذه الحال ! لما يشعرُ به من حلاوةِ الإيمان ولذَّةِ الطَّاعة . و هكذا مَضَتِ الأيامُ ورحَلَ رمضان ، ثُمَّ ماذا ؟

رَحَلْتَ يا رمضانُ و لم يمضِ على رحيلِكَ سوى ليالٍ و أيامٍ ، و لرُبَّمَا رَجَعَ تاركُ الصَّلاةِ لتركِهَا و آكلُ الرِّبَا لأكلِهِ ، وسامعُ الغناءِ لسماعِهِ ومشاهدُ الفُحشِ لفحشِهِ و شاربُ الدخانِ لشربِهِ ..

رَحَلْتَ يا رمضانُ و لم يمضِ على رحيلِكَ سوى ليالٍ و أيامٍ ، و لرُبَّمَا نسينا لذةَ الصِّيامِ فلا السِتُّ من شوال ولا الخميسُ ولا الاثنينُ ولا الثلاثةُ الأيَّام من كل شهر.

رَحَلْتَ يا رمضانُ و لم يمضِ على رحيلِكَ سوى ليالٍ و أيامٍ ، و لرُبَّمَا لم نَذُقْ فيها طعمَ القيام ، سبحانَ الله ! أينَ ذلك الخشوعُ ؟ و تلك الدموعُ في السجودِ والرُّكوع ؟

أين ذلك التسبيحُ والاستغفارُ ، وأين تلك المناجاةُ لله الواحدِ القهَّار ؟

رَحَلْتَ يا رمضانُ و لم يمضِ على رحيلِكَ سوى ليالٍ و أيامٍ ، و لرُبَّمَا هَجَرْنَا القرآنَ وقد كُنَّا نقرأُ بعدَ الفجرِ وبعدَ الظُّهرِ وبعدَ العصرِ وفي اللَّيلِ و النَّهار ، وهاهُوَ أسبوع مضى فكم قرأنا فيهِ من القرآن ؟

نَشرَقُ بدموعِ الفراقِ أيُّها الأحبَّة ، فلا نستطيع أن نَبُثَّ المشاعرَ والآلامَ والأحزانَ ، لما نجدْهُ من فقدِ لَذَّةِ الطَّاعةِ وحلاوةِ الإيمان ..

رمضان ! كيفَ ترحلُ عنَّا وقد كُنْتَ خيرَ جليسٍ لنا ، بفضل ربِّنا كنتَ عوناً لنا ونحنُ بين قارئٍ وصائمٍ ومنفقٍ وقائم ، ونحن بين بكَّاءٍ ودامعٍ وداعٍ وخاشع ..

رَحَلْتَ يا رمضان ، والرَّحيلُ مُرٌّ على الصالحين ، فابكوا عليه بالأحزانِ وودِّعُوه ،وأجرُوا لأجلِ فراقِهِ الدُّموعَ وشيِّعوه ..

دعِ  البكاءَ على الأطلالِ والدَّارِ *** و اذكر لمن بانَ من خلٍّ و من جارِ

 ذرِ الدموعَ نحيباً و ابكِ من أسفٍ *** على فراقِ ليالٍ ذاتِ أنوارِ

على ليالٍ لشهرِ الصومِ ما جُعلَتْ *** إلا لتمحيصِ آثامٍ و أوزارِ

يا لائمي في البُكا زدني به كَلفاً *** و اسمع غريبَ أحاديثٍ و أخبارِ

ما كان أحسنُنا و الشملُ مجتمعٌ *** منَّا المصلِّي و منَّا القانتُ القارِي

الناسُ بعد رمضانَ فريقان ، فائزونَ وخاسرونَ، فيا ليتَ شعري من هذا الفائزُ منَّا فنهنيَه ، ومن هذا الخاسـرُ فنعزيَه ؟! ورحيلُهُ مرٌّ على الجميع .. الفائزينَ والخاسرينَ ..

الرحيلُ مُرٌّ على الفائزينَ لأنَّهم فقدوا أياماً ممتِعَة ، وليالٍ جميلَة .. نهارُها صدقةٌ وصيام وليلُها قراءةٌ وقيام ، نسيمُها الذِّكر والدُّعاء ، وطيبُها الدموعُ والبكاء ..

 شعروا بمرارةِ الفراقِ فأرسلوا العَبَرَاتِ والآهَات..كيفَ لا وهو شهرُ الرَّحمَات وتكفيرِ السِّيئاتِ وإقالةُ العَثَرَات، كيفَ لا والدعاءُ فيه مسموعٌ و الضُرُّ مدفوعٌ والخيرُ مجموع ؟!

كيف لا نبكي على رحيلِهِ ونحنُ لا نعلمُ أَمِنِ المقبولينَ نحنُ أم مِّن المطرودين ؟!

كيفَ لا نبكي على رحيلِهِ أيُّها الأحبةُ ونحنُ لا ندري أيعودُ ونحنُ في الوجودِ أم في اللِّحود ؟!

فيا ليت شعري أيُّها الأحبةُ بعدَ هذه الأيام .. من منَّا أشغلَهُ هذا الهاجسُ وقد مضى أسبوعُ على رحيلِ رمضان ؟ مَن منَّا أشغله هاجسُ هل قُبِلَتْ أعمالُهُ أم لا ؟

هل نحنُ من الفائزينَ في رمضانَ أم لا ؟ من منَّا لسانُهُ يلهجُ بالدُّعاء أن يَقبَلَ اللهُ منه رمضان ؟

إنَّنا نقرأُ ونسمعُ أنَّ سلفَنَا الصالحَ كانوا يدعونَ اللهَ ستةَ أشهرٍ أن يقبلَ اللهُ منهُم رمضان ، ونحنُ لم يمضِ على رحيلِهِ سوى أيامٍ فهل دعونا أم لا ؟

أم أنَّنا نسينَا رمضانَ وغَفَلْنا عنه و كأنَّنا أَزَحْنَا حِمْلاً ثقيلاً كان جاثماً على صدورِنا !

نعم رَحَلَ رمضان .. لَكَن ماذَا استفَدْنَا مِن رمضَان ؟ وأين آثارُهُ على نفوسِنَا وسلوكِنَا ، وعلى أقوالِنا وأفعالِنا ؟ أما المفرِّطونَ نعوذُ بالله من حالهم ، فهم نوعان :

النوع الأول : أناس قصَّرُوا فلم يعملوا إلا القليل ، نعم صلَّوا التراويحَ والقيامَ سِرَاعاً .. فهم لم يقوموا إلا القليلَ ، ولم يقرأوا من القرآنِ إلا القليل .. ولم يقدِّموا من الصَّلواتِ إلا القليل..

الصلواتُ المفروضةُ تشكو من تخريقِها ونقرِها ، والصيامُ يئِنُّ من تجريحِهِ وتضييعِه .. والقرآنُ يشكو من هجرِهِ ونثرِهِ .. والصدقةُ ربَّما يتبعُها منٌ وأَذَى ..

 الألسنُ يابسةٌ من ذكرِ الله .. غافلةٌ عن الدُّعاءِ والاستغفار ، فهم في صراعٍ مَعَ الشَّهواتِ حتى في رمضان، لكنَّ فطرةَ الخيرِ تجذبُهُم ، فتغلبُهُم تارةً ويغلبونهَا تَارَاتٍ !

هم يقرأونَ القرآنَ في النَّهار ، لكنَّهُم يصارعونَ النومَ بعد ليالٍ من السَّهَرِ و التَّعَبِ و الإرهاقِ . أما الصلاة ، فصلاةُ الظُّهرِ عليها السَّلام ! ورُبَّما صلاةُ العصر ، بل وربَّما الفجر ! كلُّ ذلك بسببِ التَّعَبِ والإرهاقِ كما يقولون . فهؤلاء لم ينتبِهُوا إلاَّ و الحبيبُ يرحَلُ عنهم ، فتجرَّعوا مرارةَ الرَّحيلِ .. بكاءٌ ونَدَم ..

 حَزِنُوا ! ولكن بعدَ ماذا ؟ بعدَ فواتِ الأوانِ .. بعد أن انقضت أفضلُ الأيَّام .

النوع الثاني :

أما النوعُ الثاني من المفرِّطينَ فهُمُ الخاسرونَ ،نعوذُ بالله من الخسران .

فهناك من لم يَقُم رَمَضَان .. ولم يقرأِ القرآنَ .. ورُبَّمَا لم يَصُم في رمضان ، فنهارُهُ ليلٌ وليلُهُ ويل !

لا الأواخرَ عرفوها ولا ليلةَ القَدْر قَدَّروها .. فمتى يصلحُ من لا يصلُحُ في رَمَضَان ؟

متى يصُحُّ من كان من داءِ الجَهَالَةِ والغَفْلَةِ مَرْضَان؟

مَن فَرَّطَ في الزَّرع في وقتِ البَذَارِ ،لم يحصدْ غيرَ النَّدَمِ والخَسَار .

مساكينُ هؤلاء ، فاتَهم رمضانُ وخيرُ رمضان ، فأصابَهم الحرمانُ وحَلَّتْ عليهِمُ الخيبةُ والخُسران !

قلوبٌ خَلَتْ من التَّقوى فهي خرابٌ بَلْقَع ، لا صيامٌ ينفع ولا قيامٌ يَشْفَع .

قلوبٌ كالحجارةِ أو أشدٌّ قَسوة ، حالُها في رمضان كحالِ أهلِ الشَّقوة ، لا الشابُّ منهم ينتهي عن الصَّبوة ، ولا الشيخُ يَنـزَجِرُ فيلحقُ بالصَّفوة .

أيُّها الخاسر ! رَحَلَ رمضانُ وهو يشهدُ عليكَ بالخُسران فأصبحَ لكَ خصماً يومَ القيامة .

رَحَلَ رمضانُ وهو يشهدُ عليكَ بِهَجْرِ القُرآن ، فيا وَيلَ من جَعَلَ خصمَهُ القرآنَ وشهرَ رمَضَان !

فيا مَن فرَّطَ في عُمُرِهِ وأضَاعَه ، كيف ترجو الشَّفاعة ؟ أتعتذِرُ برحمةِ الله ؟ أتقولُ لنا إنَّ اللهَ غفورٌ رحيم ؟

نعم ! لكن " إِنَّ رَحْمَةَ اللهِ قريبٌ مِنَ المحُسنِينَ " ، العاملين للأسبابِ ، الخائفينَ المُشفقين .

سُئِلَ ابنُ عباسٍ عن رَجُلٍ يصومُ النَّهارَ ويقومُ اللَّيلَ ولا يشهدُ الجمعةَ والجمـاعات ، فقال رضيَ اللهُ تعالى عنه : " هُوَ في النَّار " ! فأبعدَهُ الله ! فكم أولئكَ المبعدينَ عن رحمةِ الله !

فيَا أيُّهَا الخاسرُ .. نعم رَحَلَ رمضانُ ورُبَّما خسرتَ خسارةً عظيمة ، ولكن ، الحمدُ لله فمَا زالَ البابُ مفتوحاً والخيرُ مفسوحاً ..  وقبلَ غرغرةِ الرُّوحِ ابكِ على نفسكَ وأكثرِ النَّوح ، وقل لها :

ترحَّلَ الشَّهرُ –وا لهفاهُ – وانصَرَمَا *** واختُصَّ بالفوزِ في الجنَّاتِ من خَدَمَا

وأصبحَ الغَافِلُ المسكينُ منكسراً *** مثلي ! فيَا وَيحَهُ يا عُظمَ مَا حُرِمَا !

من فاتَهُ الزَّرعُ في وقتِ البَذَارِ فَمَا *** تراهُ يحصُدُ إلاَّ الهمَّ والنَّدَمَا

طُوبى لِمَن كانتِ التَّقوى بضاعتَه *** في شهرِهِ وبحبلِ اللهِ مُعتَصِمَا

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من.............

 

أيُّهاَ الأحبَّة ، هَذِهِ مشاعرُ وتَوجِيهات ، عَن رَحيلِ رمَضَان ، قصدتُ تأخيرَهَا بعدَ رَمَضَان بأيَّامٍ لِنَرَى ونَشْعُرَ بالفَرْقِ بَينَ حَالِنَا في رَمَضَان وحالِنَا هَذِهِ الأيَّام ، عَلَى قِلَّتِهَا فَكَيفَ يَا تُرَى بِحَالِنَا بعدَ شَهرٍ وشَهَرَينِ وَأَكثَرَ ؟!

رُغمَ أَنَّني أُؤكِّدُ وَأُكَرِّرُ أنَّنَا لا نُطَالبَ  النُّفُوسَ أَنْ تَكُونَ كَمَا هِيَ في رَمَضَان ، وَلَكِنَّنا نُطَالِبُها بالاستِمرَارِ والمُدَاوَمَةِ عَلَى الطَّاعَاتِ والوَاجِبَاتِ ، وَتَذَكُّرِ الله وخَوفِ الله والصِّلَةِ به ، وَلَو كَانَت هَذِهِ الطَّاعَاتُ قَليلَةً فَقلِيلٌ دَائِمٌ خَيرٌ مِن كَثيرٍ مُنقَطِعْ .

سَلامٌ مِنَ الرَّحمنِ كُلَّ أَوَانِ *** عَلَى خَيرِ شَهْرٍ قَدْ مَضَى وَزَمَانِ

سَلامٌ عَلَى شَهْرِ الصِّيامِ فَإنَّهُ *** أَمَانٌ مِنَ الرَّحمنِ أيُّ أَمَانِ

تَرَحَّلْتَ يَا شَهْرَ الصِّيَامِ بِصَومِنَا *** وَقَد كُنتَ أَنوَارَاً بِكُلِّ مَكَانِ

لَئِنْ فَنِيَتْ أَيَّامُكَ الزُّهْرُ بَغْتَةً *** فَمَا الحُزْنُ مِن قَلْبِي عَلَيكَ بِفَانِ

عَلَيكَ سَلامُ اللهِ كُن شَاهِدَاً لَنَا *** بِخَيرٍ رَعَاكَ اللهُ مِن رَمَضَانِ

الَّلهُمَّ يَا حَيُّ يا قَيُّومُ إن كَانَ بِسابقِ علمِكَ أنْ تجمَعَنَا في مِثْلِ هَذَا الشَّهرِ المُبارَكِ فَلتَجْمَعَنَا فِيهِ يَا حَيُّ يَا قَيَّوم ، وَإنْ قَضَيتَ بِقَطْعِ آَجَالِنَا وَمَا يَحُولُ بَينَنَا وَبَينَهُ فَأَحْسِنْ الخِلافَةَ على باقِينَا وأَوْسِعِ الرَّحمَةَ عَلَى مَاضِينَا .

الَّلهُمَّ تَقَبَّلْ مِنَّا رَمَضَانَ،  الَّلهُمَّ تَقَبَّلْ مِنَّا رَمَضَانَ، الَّلهُمَّ تَقَبَّلْ مِنَّا رَمَضَانَ، واعفُ عَنَّا مَا كَانَ فيهِ مِنَ تَقصِيرٍ وَغَفْلَةٍ.  الَّلهُمَّ اجعلْنَا فِيهِ مِنَ الفَائِزِينَ ، الَّلهُمَّ ارحَمْ ضَعْفَنَا وتَقْصِيرَنَا وَأَعِنَّا على ذِكرِكَ وشُكْرِكَ وحُسْنَ عِبَادَتِكَ ، لا حَوْلَ لَنَا وَلا قُوةَ لَنَا إلاَّ بِكَ فَلا تَكُلْنَا إِلى أَنفُسِنَا طَرْفَةَ عَينْ .

اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين....

اللهم يا كاشفَ كلَ ضرٍ وبلية، ويا عالمَ كلَ سرٍ وخفية، نسألُك فرجا قريبا للمسلمين، وصبرا جميلا

للمستضعفين، الَّلهُمَّ ارحَمِ المُستَضْعَفينَ المُسلِمِينَ في كُلِّ مَكَان ، الَّلهُمَّ كُنْ نَاصِرَاً لَهُمْ يَوْمَ تَخَلَّى عَنْهُمُ النَّاصِرُ ، وكُنْ مُعِينَاً لَهُم يَومَ تَخَلَّى عَنْهُمُ المُعينُ ، الَّلهم ارحمِ الأطفالَ اليَتَامى والنِّساءَ الثَّكَالَى ، وذِي الشَّيبَةِ الكَبِير.

سُبحَانَكَ الَّلهُمَّ وبحمدِكَ أَشهَدُ ألا إلهَ إَلا أَنتَ أَستَغْفِرُكَ وأَتوبُ إلَيكَ ، وصلَّى الله وسلَّمَ عَلَى نبيِّنَا مُحَمَّدٍ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسلِيمَاً كَثِيراً .

]]>
es.islamcenter@gmail.com (mona) الصوم Tue, 15 Jan 2013 09:31:38 +0000
رمضان موسم الخيرات والبركات http://islam-centers.net/ar/islamic-definition/article-islamic-definition/59-2010-06-15-14-12-04/496-2013-01-15-09-20-34.html http://islam-centers.net/ar/islamic-definition/article-islamic-definition/59-2010-06-15-14-12-04/496-2013-01-15-09-20-34.html Normal 0 false false false EN-US X-NONE AR-SA

رمضان موسم الخيرات والبركات

ألقى فضيلة الشيخ عبد الرحمن السديس - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "رمضان موسم الخيرات والبركات"، والتي تحدَّث فيها عن مواسم الخيرات التي خصَّنا الله بها، وأعظمُها: شهر رمضان، وقد عدَّد شيئًا مما ثبتَ عن المصطفى - عليه الصلاة والسلام - في فضله، ووجَّه الدعوة لوسائل الإعلام بتقوى الله وعدم إفساد الصيام على أنفسهم والصائمين.

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده - سبحانه - ونستعينه ونستغفره، هو وليُّ التوفيق والهُدى، خصَّنا بموسمٍ للطاعات ما أهناه مورِدًا، من استبَقَه بلغَ من مراضي الديَّان فرقدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نتبوَّأ بها من الجِنان مقعَدً، وأشهد أن نبينا وقدوتنا محمدًا عبد الله ورسوله خيرُ من صامَ وقامَ فكان في الفضلِ أوحدًا، اللهم ربنا فصلِّ عليه محمدًا وأحمدًا، وعلى آله الأُلَى بلغوا من شهر التُّقَى مجدًا وسُؤددًا، وصحبِه الكرام الذين أمضَوا رمضانَ رُكَّعًا وسُجَّدًا، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ يرجو المآلَ الأسعدا، وسلِّم تسليمًا كثيرًا لا يزالُ عذْبًا مُردَّدًا، ما راحَ في الإحسانِ رائحٌ أو غدا.

أما بعد، فيا عباد الله:

إن رُمتُم عزًّا سرمدًا فاتقوا الله العظيمَ الأمجدا، واغتبِطوا بشهر الصيام تُفلِحوا اليوم وغدًا؛ فالسعيدُ من اتقى ربَّه واهتدَى، ولم يُضيِّع شريفَ الأوقاتِ بددًا، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18].

عليك بتقوى الله سرًّا وجهرةً

ففيها جميعُ الخير حقًّا تأكَّدا

لتُجزَى من الله الكريم بفضلِه

مُبوَّأ صدقٍ في الجِنانِ مُخلَّدًا

أيها المسلمون:

في مُضِيِّ المسلم لربِّه بالآصال والبُكور، وفي سيره لمولاه في جميع الأمور، مع ما يكتنِفُ ذلك من الماديات، وما يُصاحِبُه من مُتغيِّرات، وما يعيشُه كثيرون من فراغٍ وإجازاتٍ وأسفارٍ وسياحةٍ وتنقُّلات، وما تُعانيه الأمةُ من أحداثٍ ومُستجِدَّات، لا غرْوَ أن ينتابَه التواني والفُتور، والنَّمطِيَّةُ عبر الشهور؛ بل لربما التِّرَةُ والقصور في القِيَم والعبادات وشتَّى المجالات.

من أجل ذلك - وما أعظم ما هنالك - خصَّنا المولى - جلَّ اسمه - بأزمنةٍ مباركةٍ ومواسم بالخيرات والمِنَح نواسِم، اكتنَزَت حِكَمًا لاستنهاضِ النفوس مقصودة، وغاياتٍ باهراتٍ للتشويق للطاعات معقودة، فيها ينعطِفُ المسلمُ لشِيَمه التعبُّدية المحمودة، ويُعاوِد انبعاثَته في الخير المعهودة.

ومن تلك الأزمنةِ المَشوقة: شهرٌ عظيمٌ شأنه، شريفٌ زمانه، تبدَّى ببهائه إلينا، وأقبلَ برائع مُحيَّاه علينا، فيه تُدرِكُ النفوسُ ألَقَ الإحسان، ونداوَة اليقين وحلاوةَ الإيمان، إنه شهر رمضان المُبارك الميمون، أقبل ليُجدِّد لنا في كل يومٍ مسرَّةً وبُشرى، وينفَحَنا أريجًا طابَ عرْفًا ونشرًا، ويُزكِّي القلوبَ بالرحمات وقد أصارَها لديه أصرًا، وكم شدَّ بالتراويح والتهجُّد منا أزرًا وأزرًا، وأدلَجَ بنا في أنداء الطُّهر وأسرَى.

إخوة الإيمان:

إنه شهرُ الصيام والقيام، أقبلَ ليُوقِظَ فينا جمالَ الرجاء، ولذَّة الدعاء، وشوقَ التبتُّل الصادق الهتَّان، وتباريحَ التضرُّع الفَيْنان، بين يدي الرحمن، ولننهَل من كوثره الرقراق كؤوس الهُدى الدِّهاق، فيُحيلُ - بإذن الله - أرواحَنا أزهارًا مُمرِعة بسُيُوب الغفران، أسِيَةً بخمائل الرضوان.

فأهلاً بشهر التُّقى والجُود والكرَمِ

شهر الصيامِ رفيعِ القدرِ في الأُممِ

نفوسُ أهل التُّقَى في حبِّكم غرِقَت

وهزَّها الشوقُ شوقُ المُصلِح العلَمِ

معاشر المسلمين:

ضيفُكم الكريم هو الفرصةُ السانِحة، والصفقةُ الربانيةُ الرابحة للتزوُّد للدار الآخرة بالأعمال الصالحة، وليس إلى مرضات الرحمن - بحمد الله - كبيرُ مشقَّةٍ واقتحامِ عناء، إن راقبَ المسلمُ نفسَه وأولاهَا الحزمَ والاعتناء، وبادرَ إلى الطاعة دون تلكُّؤٍ أو وَناء، مُعتبِرًا بمن كانوا بيننا في العام الماضي وقد سرَت بهم المنَايَا القواضِي، فالبِدار البِدار إلى فضل الله الممنوح قبل فواتِ الروح، وأجهِدوا أنفسَكم أن يكون عهدُ التوانِي منسوخًا، وزمنُ التسويفِ مفسوخًا.

وفي مأثور الحِكَم: "من أشدِّ الغُصَص فواتُ الفرص، ومن أخدَ للتواني حصدَ الأوهامَ والأماني".

وخيرُ الدُّرَر ما صحَّ عن سيد البشر - بأبي هو وأمي - عليه الصلاة والسلام -؛ فعن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجتهِد في رمضان ما لا يجتهِد في غيره؛ رواه مسلم.

ومن شمَّر عن ساعدِ العبادة والجِدِّ انصرفَ بمديد الفوز والجَدِّ.

يا أمتي! استقبِلوا شهرًا بروحِ تُقًى

وتوبةِ الصدقِ فالتأخيرُ إغواءُ

توبوا إلى ربكم فالذنبُ داهيةٌ

ذلَّت به أممٌ واحتلَّها الداءُ

أيها المؤمنون:

في رمضان يفتحُ الحُبور للصائم بابًا، ويفوزُ يومَ يُؤتَى باليمين كتابَه، وإذا لقِيض ربَّه وفَّاه حسابَه؛ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «للصائم فرحتان يفرحُهما: إذا أفطرَ فرِح، وإذا لقِيَ ربَّه فرِحَ بصومه»؛ خرَّجه الشيخان.

وما دعا ربَّه إلا أجابَه، ولم يُوصِد دونه بابَه؛ يقول - عليه الصلاة والسلام -: «إن للصائم عند فِطره لدعوةً ما تُردُّ»؛ أخرجه ابن ماجه وغيره.

وإذا كانت أول ليلةٍ من رمضان صُفِّدت الشياطينُ ومرَدَةُ الجن، وغُلِّقَت أبوابُ النار فلم يُفتَح منها باب، وفُتِّحت أبوابُ الجنة فلم يُغلَق منها باب، ويُنادِي مُنادٍ: يا باغي الخير أقبِل، ويا باغِي الشرِّ أقصِر، ولله عُتقاءُ من النار، وذلك كل ليلة؛ أخرجه الترمذي، وابن ماجه، وابن خزيمة وصحَّحه.

الله أكبر! ما أكرمه من عطاءٍ، وما أعظمَه من حِباء.

وكم لله من نفحَاتِ خيرٍ

بمقدَمِك السعيدِ أخا السناءِ

فكم خشَعَت قلوبُ ذوي صلاحٍ

وكم دمَعَت عيونُ الأتقياءِ

فحيَّ هلاً بمن اختار الخيرَ بنواحِيه وأطرافه، ولزِمَ المعروفَ من قواصِيه وأكنافِه، وكان دَيدَنُه الذكرَ والترتيلَ والصدقَة، والاستغفارَ والتوبةَ والنفقَة، وأداء الحقوق، والخروج من المظالِم، والرحمةَ والجُود على ذوي المَسغَبَة ممن أعوَزَهم الفقرُ والفاقَة والجفافُ والمجاعة.

أمة القرآن:

وطُوبَى لقومٍ يُلقون قلوبَهم إلى القرآن بالتدبُّر والسمع، فتفيضُ أعينُهم من الوجَل بالدمع، أزلفَهم الله إليه وأراضهم، وأكرمَ قلوبَهم بالقرآن وأحظاهم.

أمة الصيام والقيام:

تلك - وايْمُ الله، ثم وايْمُ الله - حقيقة القلوبِ والأجساد التي ما فُطِرت إلا لعبادة ربِّ العباد، ولتتملَّى مِنَح البرِّ الوَدود في محاريبِ الطاعات والسجود، فأين المُشتاقون لجنات الخلود؟!

ألا فلتجعلوا - معاشر المؤمنين، رحمكم الله - لجوارحِكم زِمامًا من العقل والنُّهَى، ورقيبًا من الورَعِ والتُّقَى؛ حِفظًا للصيامِ عن النقصِ والانفِلام؛ فأيُّ غَناءٍ في أن يدَعَ بعضُ المسلمين طعامَه وشرابَه ثم يركبُ الصعبَ والذَّلول للآثام والمُوبِقات والمعاصي والمنكرات، لا يردُّه من الدين وازِع، ولا ينزِع به من حُرمة الشهر نازِع.

وتحذيرًا للوالغين في هذا المكرَعِ الآسِن وتنبيهًا، يقول المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: «رُبَّ صائمٍ ليس له من صيامه إلا الجوعُ والعطَش، ورُبَّ قائمٍ ليس له من قيامِه إلا السهرُ والتعب»؛ خرَّجه النسائي، وابن ماجه.

وهل مقاصد الصيام العِظام - يا أمة خير الأنام - عليه الصلاة والسلام - إلا تهذيبُ النفوس وترقِيَتُها، وذمُّها عن أدرانِها وتزكيتُها، وتقويمُ جُنوحِها، وسَوسُ شِماسِها وجُموحِها، وذلك هو المُرادُ الأسمَى، والهدفُ الأسنَى من شِرعةِ الصيام في الإسلام؛ ألا هو: تحقيقُ التقوى، يقول - سبحانه -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].

أي: تحقيقًا للتقوى ورجاءً، وغايةً وابتغاءً؛ فهل يعِي ذلك من غفَلوا عن مقاصد الصيام الحقيقية وكرِعوا في المقاصد الدنيوية الدنيئة من أهل الجشَع والطمَع والهلَع، وزيادةِ الأسعارِ وإغلاءِ السِّلَع، أو من أربابِ الشهواتِ القميئَة ممن يتسمَّرون أمام القنوات والفضائيات، فالله المستعان.

ألا فاتقوا الله - عباد الله -، واستقبِلوا شهركم بالاغتِباط والاستبشار، وكثرةِ التوبة والاستغفار؛ فقد كان المصطفى - صلى الله عليه وسلم - يُبشِّر أصحابَه بقدوم شهر رمضان، ويقول: «قد أظلَّكم شهرٌ عظيمُ مُبارَك»؛ خرَّجه ابن خزيمة وابن حبان في "صحيحيهما".

وما ذاك إلا تهيِئةً للنفوس، وشحنًا للهِمَم، وتقويةً للعزائم عن الفُتور والنُّكُوص، فهنيئًا لأمتنا الإسلامية بحُلول شهر الصيام، ويا بُشرى لها بموسمِ الرحمةِ والغفرانِ والعتقِ من النيران، وبارَكَ الله لها في أيامِه الغُرِّ ولياليه الزُّهْر، وأصلَحَ فيه أحوالَها، وحقنَ دماءَها، وحقَّق وحدتَها، وجمعَ كلمتَها على الحق والهُدى، إنه جوادٌ كريم.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم والسنة الشريفة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات الباهِرات والحِكَم المُنيفة، أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولكافة المسلمين والمسلمات من جميع الآثام والخطيئات، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه كان للأوابين غفورًا.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رفعَ لشهر الصيام قدرًا، وحثَّنا على تحقيق مقاصده الكُبرى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أجرَى في شهر الصيام من البرَكات ما أجرى، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله أكرمُ العبادِ أرُومةً وذُخرًا، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبه البالغين من الخير فضلاً عظيمًا وأجرًا، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله - عباد الله -، واستلهِموا التوفيقَ لشهر الصيام، واغتنِموا أيامَه وليالِيَه الكِرام؛ تفوزوا بمرضاة الملكِ العلاَّم.

أمةَ الإسلام:

يُهِلُّ علينا شهرُ رمضان المبارك وأمتُنا الإسلامية تلفَحُها المآسِي والفِتَن، ويطؤُها منسِمُ الرزَّايا والمِحَن، قد استحكَمَ في كثيرٍ من أقطارها الافتراق والاضطرابُ والشِّقاق، ولكن ثم لكن يحدُونا التفاؤلُ المُشرِق أن تقتبِسَ أمتُنا من مدرسةِ الصيامِ والقيام الحِكَمَ والعِظات، والعِبَر الهادِيات، وأن تُفِيءَ إلى رحابِ الاتحادِ والاعتصام، والتراحُم والوِئام، بدلَ الفُرقة والانقسام، وتنخلِعَ من ضيقِ المصالحِ الذاتية إلى سَعَة المقاصد الشرعية، ومن سَمِّ التعصُّبِ للآراء والأفكار إلى رَحابَة التشاوُر والحِوار، وتغليبٍ لصوت العقل والحِكمَة وإلقاء السلاح، ووقفِ نزيفِ الدمِ المُهرَاق؛ صيانةً للدماء المعصومة، وبُعدًا عن الفوضَى والاضطراب، والفتنِ والعُنفِ والتدميرِ والاحتِراب، ورعايةً لأمن الأمة واستقرارِها، واطمئنانِ البلاد والعباد.

ولكَم يتحتَّمُ ذلك ويتأكَّد، ويرجُوه الغَيُور من السُّوَيداء ويتوطَّد في شهر الخيرات والبركات، وتنزُّل القرآن العظيم والرَّحمات، يحملُ مِشعَلَ الإصلاحِ والإنقاذِ العلماءُ الربانيُّون الأعلام، وعلى آثارهم الدعاةُ والكُفاة من حمَلة الأقلام ورادَة النُّصْحِ السَّدِيد والرأي الحَصِيفِ الرشيد، حافِزُهم الإيمان الوثيق بالتسديد الحقيق.

والدعوةُ الحرَّاء مُوجَّهةٌ للقائمين على وسائل الإعلام كافةً أن يتقوا اللهَ - سبحانه -، ويُحسِنوا استقبالَ هذا الشهر الكريم، ويُراعُوا مكانتَه وحُرمتَه، ويصوموا عن كلِّ ما يخدِشُ روحانيَّتَه وبهاءَه، ويكُفُّوا عن التسابُق المحموم في بثِّ العفَنِ من القولِ والفعل.

عند ذلك سيبتسِم الأملُ - بإذن الله - في قُطورِ اليأس، ويُومِضُ فجرُ انكِشافِ الغُمَّة في دامِس الظلام، وتُؤوبُ أمتُنا المبارَكة إلى عليَاء الريادة والوَحدة والقوة، ومعاقِد عزَّتِها المتلُوَّة، وما ذلك على الحقِّ - جل جلالُه - بعزيز، ولكي يتحقَّق ذلك فإن الأمةَ مُطالبَةٌ بجدٍّ وإلحَاح - وهي تستقبِلُ الشهرَ الكريمَ - في كل أمورها ومجالات حياتها بالتوبة والإنابة، والأَوبَة والاستجابة، والمُحاسَبة والمُراجَعَة، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24].

يا مَن عدَى ثم اعتدَى ثم اقترَف

ثم انتهَى ثم ارعَوَى ثم اعترَف

أبشِر بقولِ الله في آياتِه:

{إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}

[الأنفال: 38]، {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31].

هذا؛ وصلُّوا وسلِّموا - رحمكم الله - على أسمَى الورَى قدرًا، مَن طلَعَ في الحُلَكِ بَدرًا، كما أمركم المولى الذي أنزل الآياتِ تَتْرَى، فقال تعالى قولاً كريمًا عزيزًا بليغًا وجيزًا: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].

فصلِّ إلهي وسلِّم سلامًا

على سيدِ الخلقِ فخرِ الأُمَم

وآلٍ وصحبٍ وأهلِ صلاحٍ

ومن سارَ في دربِهم وانتظَم

اللهم صلِّ على محمد وعلى آله وأزواجه وذريته، وبارِك على محمد وآله وأزواجه وذريته، كما بارَكتَ على آل إبراهيم في العالمين، إنك حميدٌ مجيد.

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين.

اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح ووفِّق أئمتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّقه لما تحبُّ وترضى، وخُذ بناصيتِه للبِرِّ والتقوى، واجمع به كلمةَ المسلمين على الحق والهدى يا رب العالمين، وارزقه البِطانةَ الصالحةَ التي تدلُّه على الخير وتُعينُه عليه، اللهم وفِّقه ونائبَيْه وإخوانه وأعوانه إلى ما فيه صلاحُ البلاد والعباد.

اللهم وفِّق جميع ولاة المسلمين لتحكيم شرعك، واتباع سنة نبيك - صلى الله عليه وسلم -، اللهم اجعلهم رحمةً على عبادك المؤمنين.

اللهم أصلِح أحوالَ المسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، وأدِم أمنَهم وأمانَهم.

يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال، برحمتك نستغيث، فلا تكِلنا إلى أنفسنا طرفةَ عينٍ، وأصلِح لنا شأننا كلَّه، يا ذا الجلال والإكرام، يا ذا الطَّول والإنعام.

اللهم بارِك لنا في جميع الشهور والأعوام، وبلِّغنا بمنِّك وكرمك شهرَ رمضان، اللهم اجعلنا ممن يصومُه ويقومُه إيمانًا واحتِسابًا، اللهم سلِّمه لنا، وسلِّمنا له، وتسلَّمه منَّا مُتقبَّلاً يا حي يا قيوم يا رب العالمين، يا أرحم الراحمين، ويا أكرم الأكرمين.

اللهم عليك بأعدائك أعداء الدين فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم شتِّت شملَهم، وفرِّق جمعَهم، واجعلهم عِبرةً للمُعتبِرين يا قوي يا عزيز.

اللهم انصر إخواننا المُستضعَفين في دينهم في كل مكان، اللهم انصرهم في فلسطين، اللهم أنقِذ المسجدَ الأقصى من بَراثِن المُعتدين، يا قوي يا عزيز.

{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201].

ربنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، إنك سميعٌ قريبٌ مُجيبُ الدعوات.

سبحان ربك ربِّ العزة عما يصِفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

]]>
es.islamcenter@gmail.com (mona) الصوم Tue, 15 Jan 2013 09:19:56 +0000
رمضان شهر التوبة والإنابة http://islam-centers.net/ar/islamic-definition/article-islamic-definition/59-2010-06-15-14-12-04/495-2013-01-15-08-56-18.html http://islam-centers.net/ar/islamic-definition/article-islamic-definition/59-2010-06-15-14-12-04/495-2013-01-15-08-56-18.html Normal 0 false false false EN-US X-NONE AR-SA

رمضان شهر التوبة والإنابة

ألقى فضيلة الشيخ عبد المحسن بن محمد القاسم - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "رمضان شهر التوبة والإنابة"، والتي تحدَّث فيها عن فضل شهر رمضان وما حباه الله من ميزاتٍ على غيره من الشهور؛ حيث إنه شهر التوبة والاستغفار.

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فاتقوا الله - عباد الله - حقَّ التقوى، واستمسِكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقى.

أيها المسلمون:

تتوالَى نعمُ الله الظاهرة والباطنة على عباده، وقد أكرم - سبحانه - عبادَه بشهرٍ عظيمٍ مخصوصٍ بالقدر والتكريم، مُفضَّلٍ على سائر الشهور، أنزل فيه كتابَه وفرضَ صيامَه، زمنُ العتقِ والغفران، موسمُ الصدقات والإحسان، وتتوالَى فيه الخيراتُ وتعمُّ البركات.

كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول لأصحابه: «أتاكم رمضان شهرٌ مبارَك، فرضَ الله عليكم صيامَه، تُفتَّحُ فيه أبوابُ السماء، وتُغلَّقُ فيه أبوابُ الجحيم، وتُغلُّ فيه مرَدةُ الشياطين، لله فيه ليلةٌ خيرٌ من ألف شهرٍ، من حُرِم خيرَها فقد حُرِم»؛ رواه النسائي.

قال ابن رجب - رحمه الله -: "وكيف لا يُبشَّرُ المؤمنُ بفتح أبواب الجِنان؟ وكيف لا يُبشَّرُ المُذنِبُ بغلقِ أبواب النيران؟ كيف لا يُبشَّرُ العاقلُ بوقتٍ تُغلُّ فيه الشياطين؟ من أين يُشبِه هذا الزمان زمان؟".

رمضان أشرفُ الشهور وأزكاها عند الله، جعله تعالى ميدانًا لعباده يتسابقون فيه بأنواع الطاعات والقُرُبات، شهرُ منحةٍ لتزكية النفوس وتنقيتها من الآفات والضغائن والأحقاد، في هذا الشهر مغانمُ لطاعات الله: قرآنٌ وقيام، صدقةٌ وصيام، عطفٌ وإحسان؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «من فطَّر صائمًا كان له مثلُ أجره غيرَ أنه لا ينقصُ من أجر الصائم شيءٌ»؛ رواه الترمذي.

والعُمرةُ فيه فاضلة، قال - عليه الصلاة والسلام -: «عُمرةٌ في رمضان تعدِلُ حجَّة»؛ متفق عليه.

وللصائم دعوةٌ لا تُردُّ، وفي الثُلثِ الأخير من الليل ينزلُ ربُّنا ويقول: «من يدعُوني فأستجيبَ له»؛ رواه مسلم.

شهرُ رمضان يغتنِمُه المُشمِّرون لبرِّ الوالدَين والقُرب منهم والتودُّد إليهم، ولصِلَة الأرحام، والإحسان إلى الأهل والأولاد بالتوجيه الرشيد والمعاملة الحسنة.

قال ابن رجب - رحمه الله -: "الصائمُ في ليله ونهاره في عبادة، ويُستجابُ دعاؤُه في صيامه وعند فِطره؛ فهو في نهاره صائمٌ صابر، وفي ليله طاعمٌ شاكر".

والصدقةُ ميدانٌ لتفريجِ الكروبِ عن الغني قبل الفقير، يظهرُ أثرُها على المُتصدِّق في نفسه وماله وولده، وتدفعُ عنه البلاءَ وتجلبُ له الرخاء، قال ابن القيم - رحمه الله -: "للصدقةِ تأثيرٌ عجيبٌ في دفع البلاء، وهذا أمرٌ معلومٌ عند الناس خاصتهم وعامتهم، وأهل الأرض كلهم مُقرُّون به؛ لأنهم جرَّبوه، وما استُجلِبَت نعمُ الله واستُدفِعَت نقَمُه بمثلِ طاعته والتقرُّب إليه والإحسان إلى خلقه".

وفي نسمات الخير والبركات في أعظم شهرٍ في العام في الناس من يتجرَّأ على العصيان؛ من إطلاق البصر في المحظورات، أو إرخاء الأذن للمحرمات، وفيهم من يُضيِّعُ لحظاته الثمينةَ بكثرة لهوٍ يُبعِدُه عن الطاعة، وكل مُتعةٍ بمحرَّمٍ نهايتُه حسرةٌ وندامة.

والتوبةُ بابُها مفتوحٌ وخيرُها ممنوح، وفي شهر الخير أرجَى؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: «قال الله تبارك وتعالى: يا عبادي! إنكم تُخطِئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوبَ جميعًا، فاستغفروني أغفِر لكم»؛ رواه مسلم.

والذنبُ يغفِره الله وإن تعاظَم؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «قال الله تعالى: يا ابن آدم! إنك ما دعوتَني ورجوتَني غفرتُ لك على ما كان منك ولا أُبالِي، يا ابنَ آدم! لو بلغَت ذنوبُك عنانَ السماء، ثم استغفرتَني غفرتُ لك»؛ رواه الترمذي.

واليأسُ والقنوطُ سلاحٌ لإبليس ليُبقِي العاصي على عصيانه، والعبدُ مهما عمِلَ من المعاصِي والخطايا فاللهُ لا يُيأَسُ منه؛ فالتوبةُ تهدِم ما قبلَها، والإنابةُ تجُبُّ ما سلَفَها.

ومن أعظم أسباب المغفرة: أن العبدَ إذا أذنبَ ذنبًا لم يرجُ مغفرتَه من غير ربه، قال لقمان لابنه: "يا بنيَّ! عوِّد لسان: اللهم اغفر لي؛ فإن لله ساعاتٍ لا يردُّ فيها سائلاً".

وعلامةُ التوبةِ: الندمُ على ما سلَف، والخوفُ من الوقوع في الذنب، ومُجانبَةُ رُفقة السوء، ومُلازمَةُ الأخيار.

واحفظ لسانَك وسمعَك وبصرَك على الدوام عما حرَّم الله؛ قال الإمام أحمد - رحمه الله -: "ينبغي للصائم أن يتعاهَد صومَه من لسانه، ولا يُمارِي في كلامه، كانوا إذا صاموا قعَدوا في المساجد وقالوا: نحفَظُ صومَنا ولا نغتابُ أحدًا".

وليكن يومُك خيرًا من غابِرِك، واغتنِم زمنَ الأرباح، وسابِق فيها غيرَكَ إلى الخيرات؛ فأيامُ المواسم معدودة، وأوقاتُ الفضائل مشهودة، وفي رمضان كنوزٌ غالية، فلا تُضيِّعها باللهو وما لا فائدة فيه، فلا تعلمُ هل تُدرِك رمضان الآخر أم لا، واللبيبُ من نظر في حاله، وفكَّر في عيوبه، وأصلحَ نفسَه.

وعلى المرأة أن تكون شامخةً بشرفها، صائنةً عفافَها، مُتزيِّنةً بزينةِ الدين، مُتجمِّلةً بجمال السترِ والحياء، فليالي رمضان معدودة، والأنفاسُ في الحياة يسيرة، والسعيدُ من ملأ حياتَه بالطاعة والإحسان، وابتعدَ عن المعاصي والأوزار، واغتنمَ مواسمَ العام.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا مزيدًا.

أما بعد، أيها المسلمون:

ستنقضِي الدنيا بأفراحها وأحزانها، وتنتهي الأعمارُ بطولها أو قِصَرها، وكم من إنسانٍ انتظرَ رمضانَ بأقوى الأملِ في فباغَته الأجل، فافتح فيه صفحةً مُشرقةً مع مولاك، واسدِلِ الستار على ماضٍ نسيتَه وأحصاهُ الله عليك، وتُب إلى التواب الرحيم من كل ذنبٍ وتقصيرٍ وخطيئة، وفي اغتنامِ مواسم الخير في الجدِّ بالعمل الصالح والتوبة مما سلَف من القبائح ما يُعوِّضُ الله به العاملين عما مضى من نقصِ العمل، ويصرِفُ به عقوبةَ ما اقترفَ من الزَّلَل.

ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه، فقال في محكم التنزيل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيْمًا} [الأحزاب: 56].

اللهم صلِّ وسلِّم على نبينا محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدِلون: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعنَّا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين.

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل اللهم هذا البلد آمنًا مُطمئنًّا رخاءً وسائر بلاد المسلمين.

اللهم تقبَّل منا صيامنا وقيامنا، اللهم تقبَّل منا الصيامَ والقيامَ، واصرِف عنا الفتنَ ما ظهر منها وما بطَن.

{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201]، واجعلنا ربنا في هذا الشهر الكريم من عُتقائك من النار.

اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم احقِن دماءهم، واحفَظ أموالَهم وأعراضَهم، وأطعِم جائعَهم يا رب العالمين.

اللهم وفِّق إمامنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، ووفِّق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وتحكيم شرعك يا ذا الجلال والإكرام.

عباد الله:

{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[النحل: 90].

فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلائه ونعمه يزِدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

]]>
es.islamcenter@gmail.com (mona) الصوم Tue, 15 Jan 2013 08:55:43 +0000
رمضان واغتنام الأوقات الفاضلة http://islam-centers.net/ar/islamic-definition/article-islamic-definition/59-2010-06-15-14-12-04/494-2013-01-15-08-31-19.html http://islam-centers.net/ar/islamic-definition/article-islamic-definition/59-2010-06-15-14-12-04/494-2013-01-15-08-31-19.html Normal 0 false false false EN-US X-NONE AR-SA

رمضان واغتنام الأوقات الفاضلة

ألقى فضيلة الشيخ علي بن عبد الرحمن الحذيفي - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "رمضان واغتنام الأوقات الفاضلة"، والتي تحدَّث فيها عن نعمة الله في تعليم عباده الأوقات الفاضلة التي تتضاعف فيها الحسنات، ذكَّر ببعض ما ورد من الآيات والأحاديث في فضل صيام رمضان وقيامه.

الخطبة الأولى:

الحمد لله ذي الجلالِ والإكرام والفضل والإنعام، أحمد ربي وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملكُ القدوس السلام، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبده ورسوله المبعوثُ بأفضل الأحكام، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه الكِرام.

أما بعد:

فاتقوا الله حقَّ التقوى؛ فتقوى الله خيرُ زادٍ ليوم المعاد.

أيها المسلمون:

اذكروا نِعَم الله عليكم؛ إذ علَّمكم الأوقاتَ الفاضلة التي تتضاعَفُ فيها الحسنات، وشرعَ لكم فيها الطاعات، وفصَّلَ لكم المُحرَّمات التي تُخزِي الإنسان في الحياة وبعد الممات، قال الله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 151، 152]، وقال تعالى: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 239]، وقال تعالى: {وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ} [الأنعام: 91]، وقال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119].

فما أعظمَ كرمَ الرب - جل وعلا -، وما أوسعَ عطاءَه، وما أجلَّ نِعَمه وجُودَه، يُعلِّمُنا الأزمنَةَ الفاضلَة التي يتضاعَفُ فيها الثواب، ويُعلِّمُنا أنواعَ القُرُبات التي يرضى بها عنَّا، ويُعينُ على العبادات، ويحفظُ من المُحرَّمات، إن هذا أعظم النِّعَم، وغايةُ الجُود والكرم.

وشهر رمضان سيدُ الشهور، جعل الله صيامَه مغفرةً للذنوب؛ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من صامَ رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه»؛ رواه البخاري.

كما جعل الله قيامَه كفَّارةً لما سلَفَ من السيئات، ورفعةً في الدرجات عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من قامَ رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه»؛ رواه البخاري ومسلم.

وفيه ليلةُ القدر من قامَها إيمانًا واحتِسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الصلواتُ الخمس، والجمعةُ إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مُكفِّراتٌ لما بينهنَّ إذا اجتُنِبَت الكبائرُ»؛ رواه مسلم والترمذي.

فيا أيها المسلمون:

هذه مواسمُ الخيرات قد أقبَلَت، وهذه أوقاتُ الفضل قد دخلَت، وأبوابُ الجنة في رمضان فُتِّحَت، وأبوابُ النار أُغلِقَت، والشرورُ قد طُفِئَت؛ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا دخلَ رمضان فُتِّحَت أبوابُ الجنة، وأُغلِقَت أبوابُ جهنم، وسُلسِلَت الشياطين»؛ رواه البخاري ومسلم.

وثوابُ الصيام أفضلُ الثواب؛ عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «في الجنةِ بابٌ يُدعَى الريَّان، يدخل منه الصائمون، فمن كان من الصائمين دخلَه، ومن دخلَه لم يظمَأ أبدًا»؛ رواه البخاري ومسلم.

وما ذاكَ إلا لأن الصوم سرٌّ وإخلاصٌ بين العبد وربِّه يتخلَّى العبدُ بالصوم عن حُظوظِ نفسِه، وما تدعُوه إليه طبيعتُه الأمَّارةُ بالسوء، ويُقدِّم مرضاةَ ربِّه، فيتولَّى الله جزاءَه بلا حساب؛ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كلُّ عملِ ابنِ آدمَ يُضاعَف الحسنةُ عشرُ أمثالِها إلى سبعمائة ضِعفٍ، قال الله تعالى: إلا الصوم؛ فإنه لي وأنا أجزِي به، يدَعُ شهوتَه وطعامَه من أجلي، للصائم فرحتان: فرحةٌ عند فطوره، وفرحةٌ عند لقاء ربه، ولخَلُوف فم الصائم أطيبُ عند الله من ريحِ المِسك»؛ رواه البخاري ومسلم.

ونعيمُ الجنات مُجانِسٌ وموافقٌ للأعمال، فكل عملٍ صالحٍ له نعيمٌ يُناسِبُه ويُوافِقه، والله ذو الفضلِ العظيم، ولو تعلمُ الأمةُ ما يُفيضُ عليها الربُّ من الرحمةِ والخير في رمضان لتمنَّت أن تكون السنةُ كلُّها رمضان، والدنيا دارُ عمل، والآخرةُ دارُ جزاء، والدنيا فانية، والآخرةُ باقية.

وقد كان رسولنا - صلى الله عليه وسلم - يُبشِّر أصحابَه بقدوم رمضان؛ ليستعِدُّوا له بما يليقُ به من التوبة والأعمال الصالحات؛ عن سلمان - رضي الله عنه - قال: خطَبَنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في آخر يومٍ من شعبان قال: «يا أيها الناس! قد أظلَّكم شهرٌ عظيمٌ مبارك، شهرٌ فيه ليلةٌ خيرٌ من ألف شهر، شهرٌ جعلَ الله صيامَه فريضة، وقيامَ ليله تطوُّعًا، ومن تقرَّب فيه بخَصلةٍ كان كمن أدَّى فريضةً فيما سواه، ومن أدَّى فريضةً فيه كان كمن أدَّى سبعين فريضةً فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابُه الجنة، وشهر المُواساة»؛ رواه ابن خزيمة.

والصيامُ من العبادات التي تُعِدُّ المسلمَ لأن يكونَ من المُتقين؛ ليكون أهلاً لجِوارِ رب العالمين في جنات النعيم؛ فإنه لا يدخل الجنةَ إلا طيبٌ طاهر؛ طاهرٌ من الشرك والآثام، قال الله تعالى: {كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 31، 32].

فإذا عُدِم أثرُ العبادة على الإنسان فعدمُ الأثر الطيب لخلَلٍ من الإنسان نفسه، وليس لخلَلٍ في العبادة.

أيها المسلمون:

قال رسولنا - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله فرضَ فرائضَ فلا تُضيِّعوها، وحدَّ حدودًا فلا تعتَدوها، وحرَّم أشياءَ فلا تنتهِكوها، وسكتَ عن أشياء رحمةً بكم فلا تسألوا عنها».

وأوجبُ الواجبات: توحيدُ الله تعالى؛ فمن حقَّق التوحيدَ دخل الجنةَ بغير حسابٍ ولا عذاب.

وأقِيموا الصلاة؛ فمن الناس من يصوم ويُقصِّر في الصلاة، وهذا من الخُسران، وأدُّوا زكاةَ أموالِكم ولا سيما في هذا الشهر المبارك، وحُجُّوا بيتَ ربكم، واحفَظوا صيامَكم من اللغوِ والمعاصي والذنوب؛ فـ «من لم يدَع قولَ الزورِ والعملَ به فليس لله حاجة في أن يدَعَ طعامَه وشرابَه».

قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ... }[البقرة: 183، 184].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وقوله القويم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الرحمن الرحيم، العزيز الحكيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العليُّ العظيم، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله المبعوثُ رحمةً للعالمين {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} [يس: 70]، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فاتقوا الله - عباد الله - حقَّ التقوى، وتمسَّكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقى.

عباد الله:

إن هذا الشهر الكريم شهرُ الإحسان، والمؤمنُ يُحسِنُ إلى نفسه، ويُحسِن إلى عباد الله، وأحبُّ العباد إلى الله: من أحسنَ إلى نفسه؛ بأن اتقَى الله تعالى، ووحَّد ربَّه - تبارك وتعالى -، فعبَدَ الله لا يُشرِكُ به شيئًا، وأحسنَ إلى عباد الله؛ فإن الله - تبارك وتعالى - يُحبُّ المُحسنين، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجودَ الناس، وكان أجودَ ما يكون في رمضان، فلرسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حينَ يلقاهُ جبريل أجودُ بالخير من الريحِ المُرسَلة، كما روَت ذلك عائشةُ - رضي الله تعالى عنها -.

والقدوةُ برسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فما من خيرٍ إلا وقد فعلَه وحثَّ عليه، وما من شرٍّ إلا وحذَّر منه واجتنبَه، فهو القدوةُ للمؤمنين، قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].

وهذا الشهر المبارك شهرُ القرآن، قال الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، وهذا الشهر الذي أنزل الله فيه القرآن هو غذاءُ الروح، وهو الدالُّ على الخيرات، والذي ينهَى عن المُحرَّمات؛ فإن للقرآن في هذا الشهر على القلوب سلطانًا عظيمًا، فإن سلطانَ النفس يضعُفُ بالصوم، وإن سلطانَ القرآن يقوَى.

فيا أيها الناس:

أدِيموا تلاوةَ كتابِ الله، وتدبَّروا القرآنَ العظيم؛ فإنه الذي يقودُ إلى رضوان الله وإلى جنات النعيم، وأكثِروا من التلاوةِ فيه آناء الليل وآناء النهار، وأكثِروا من ذكر الله - تبارك وتعالى -.

وإن الصدقةَ في هذا الشهر إنها من الإحسان الذي رغَّبَ الله فيه، ورغَّب فيه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فاستقبِلوا شهرَكم بخيرِ ما تقدِرون عليه من الأعمال وبتوبةٍ نَصوح؛ فإن الله - تبارك وتعالى - أمرَ بذلك، فقال - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم: 8]، والله - تبارك وتعالى -: {لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40].

توبوا إلى الله ليرتحِل هذا الشهر بذنوبٍ مغفورة، وأعمالٍ مشكورة.

عباد الله:

إن الله أمركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، فقال - تبارك وتعالى -: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «من صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا».

فصلُّوا وسلِّموا على سيد الأولين والآخرين، وإمام المرسلين، اللهم صلِّ على محمد، كما صلَّيتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، اللهم بارِك على محمد وعلى آل محمد، كما بارَكتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.

اللهو ارضَ عن الصحابة أجمعين، وعن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر أصحاب نبيك أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، اللهم وارضَ عنا معهم بمنِّك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أذِلَّ الكفر والكافرين، اللهم أبطِل كيدَ أعداء الإسلام يا رب العالمين، اللهم أبطِل مكر أعداء الإسلام يا رب العالمين، اللهم يا قويُّ يا متين اللهم أبطِل مُخطَّطات أعداء الإسلام التي يكيدون بها الإسلام والمسلمين يا رب العالمين.

اللهم انصر دينَك وكتابَك وسنةَ نبيك يا أرحم الراحمين ويا رب العالمين، يا قوي يا عزيز، اللهم اجعلنا من المُتمسِّكين بكتابك وسنة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم -، اللهم أحسِن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجِرنا ومن خِزي الدنيا وعذاب الآخرة.

اللهم ألِّف بين قلوب المسلمين، وأصلِح ذات بينهم يا رب العالمين، اللهم احقِن دماء المسلمين، اللهم احفظ دماء المسلمين، اللهم احفظ للمسلمين دينَهم وأعراضَهم ودماءَهم وأموالَهم يا رب العالمين، اللهم استُر عوراتِنا وآمِن روعاتِنا يا أرحم الراحمين.

اللهم أعِذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وأعِذنا من شر كل ذي شرٍّ يا رب العالمين، نَدرأُ بك في نحر كل ذي شرٍّ يا رب العالمين، إنك على كل شيءٍ قدير.

اللهم وفِّق خادمَ الحرمين الشريفين لما تحبُّ وترضى، اللهم وفِّقه لهُداك واجعل عمله في رضاك، وانصر به دينَك، وأعلِ به كلمتَك، اللهم وأعِنه على ما فيه الصلاحُ للبلاد والعباد يا رب العالمين، وأصلِح بِطانتَه، اللهم وفِّق نائبَيْه لما تحبُّ وترضى، ولما فيه عِزُّ الإسلام والمسلمين.

اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح اللهم ولاةَ أمورنا.

اللهم يا ذا الجلال والإكرام اللهم أطفِئ الفتن التي اشتعلَت في بلاد المسلمين، اللهم أطفِئ الثورات التي اشتعلَت في بلاد المسلمين يا رب العالمين، اللهم أطفِئها بعزٍّ للإسلام والمسلمين وعافيةٍ للإسلام والمسلمين، وذلٍّ للكفر والكافرين يا رب العالمين وأعداء الدين، إنك على كل شيء قدير.

اللهم يا ذا الجلال والإكرام أعِنَّا على صيام شهر رمضان وقِيامه، اللهم أعِنَّا على صيام شهر رمضان وقيامه يا رب العالمين.

اللهم تقبَّل منا إنك أنت السميع العليم، اللهم أحسِن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذاب الآخرة يا رب العالمين.

اللهم يا ذا الجلال والإكرام أظهِر سننَ نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم -، اللهم اقمَع البدعَ، اللهم أذِلَّ البدعَ إلى يوم الدين يا رب العالمين، اللهم انصر السننَ يا ذا الجلال والإكرام، اللهم انصر هديَ نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم -.

اللهم تُب علينا وعلى المسلمين، وفقِّهنا والمسلمين في الدين، اللهم أعِذنا وذرياتنا من إبليس وشياطينه وذريته وجنوده يا رب العالمين، وأعِذ المسلمين من إبليس وشياطينه وذريته يا ذا الجلال والإكرام.

عباد الله:

{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [النحل: 90، 91].

واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

]]>
es.islamcenter@gmail.com (mona) الصوم Tue, 15 Jan 2013 08:30:46 +0000